للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمّا قولُهُ: "تَنْفي خَبَثَها، وينصَعُ طِيبُها"، فمعناهُ أنَّها تَنْفي حُثالةَ النّاس، ولا يَبْقَى فيها إلّا الطَّيِّبُ الذي اختارَهُ الله عزَّ وجلَّ، لصُحبةِ نَبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، والخَبَثُ: رذالةُ الحَديدِ ووَسَخُهُ الذي لا يثبُتُ عِندَ النّار.

وأمّا قولُهُ: "ويَنْصَعُ" فإنَّهُ يعني: يَبْقَى ويثبُتُ ويَظْهرُ، وأصلُ النُّصُوع في الألوان: البَياضُ، يُقالُ: أبيضُ ناصِعٌ، ويَقَقٌ (١)، كما يُقالُ: أحمرُ قانِئٌ، وأسودُ حالِكٌ، وأصفرُ فاقِعٌ، والمُرادُ بهذه الكلماتِ: الثُّبُوتُ والصِّحَّةُ، والنّاصِعُ: الخالِصُ السّالِمُ، قال النّابِغةُ الذُّبيانيُّ (٢):

أتاكَ بقولٍ هَلهلِ النَّسجِ كاذِبٍ ... ولم يأتِ بالحقِّ الذي هُو ناصِعُ

أي: خالِصٍ سالم من الاختلاف.

وأمّا الخَبَثُ، فلا يثبُتُ، وما لا يثبُتُ فليسَ ظُهُورُهُ بظُهُور.

وشبَّه رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ في ذلك الوَقْتِ بالكيرِ والنّارِ، الذي لا يبقى على عَملِهِ إلّا طيِّبُهُ، ويدفعُ الخَبَثَ. وكذلك كانتِ المدينةُ، لا يبقى فيها ولا يثبُتُ إلّا الطَّيِّبُ من النّاسِ، لصُحبتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وللفَهْم عنهُ، فلمّا ماتَ خرجَ عنها كثير من جِلَّةِ أصحابِهِ، لنَشرِ عِلمِهِ، والتَّبليغ لدينِهِ - صلى الله عليه وسلم -.

فإن قِيلَ: إنَّ عُمرَ بنَ عبدِ العزيزِ قد خَشِيَ أن يكونَ مِمَّن نَفِتِ المدينةُ، وليسَ ذلكَ في المعنى الذي ذكَرتَ من صُحْبةِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والأخْذِ عنهُ، بل ذلكَ لفَضْلِ المدينةِ الباقي إلى يوم القيامة؟

قيل لهُ: لا يُنكِرُ فضلَ المدينةِ عالم، ولكنَّ قولَهُ: "تَنْفي خَبَثَها، وينصَعُ طيبُها" ليسَ إلّا على ما قُلنا، بدليلِ خُرُوج الفُضَلاءِ الصحابةِ الطَّيِّبينَ منها إلى الشّام


(١) أبيض يَقَقٌ، أي: شديد البياض ناصعه، وكسر القاف الأولى لغةٌ. انظر: مختار الصحاح، ص ٦٣٧.
(٢) انظر: ديوانه، ص ٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>