قال أبو عُمر: أمّا اختِلافُ العُلماءِ في الفِطْرةِ المذكُورةِ في هذا الحديثِ، فقالت جماعةٌ من أهلِ الفِقهِ والنَّظرِ: أُرِيدَ بالفِطرةِ المذكُورةِ في هذا الحديثِ الخِلْقةُ التي خُلِقَ عليها المولُودُ، في المعرِفةِ بربِّهِ، فكأنَّهُ قال: كلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على خِلْقةٍ يَعرِفُ بها ربَّهُ، إذا بلغَ مَبْلغَ المعرِفةِ، يُرِيدُ خِلْقةً مخُالِفةً لخِلْقةِ البَهائم، التي لا تَصِلُ بخِلْقتِها إلى مَعرِفةِ ذلك.
وأنْكَرُوا أن يكونَ المولُودُ يُفطَرُ على كُفرٍ أو إيمانٍ، أو مَعرِفةٍ أو إنكارٍ.
قالوا: وإنَّما يُولَدُ المولُودُ على السَّلامةِ في الأغلبِ، خِلقةً وطبعًا وبنيةً، ليس مَعها إيمانٌ ولا كُفرٌ، ولا إنكارٌ ولا معرِفةٌ، ثُمَّ يعتقِدُونَ الكُفرَ أوِ الإيمان بعد البُلُوغِ إذا ميَّزُوا، واحتجُّوا بقولِهِ في الحديثِ:"كما تُنتجُ البَهِيمةُ بَهِيمةً جَمعاءَ"، يعني: سالمةً، "هل تُحِسُّونَ فيها من جَدعاءَ؟ "(١)، يعني: مقطُوعةَ الأُذُنِ.
فمثَّل قُلُوبَ بني آدم بالبَهائم، لأنَّها تُولَدُ كامِلةَ الخلقِ، ليس فيها نُقصانٌ، ثُمَّ تُقطعُ آذانُها بعدُ وأُنُوفُها، فيُقالُ: هذه بَحائرُ، وهذه سَوائبُ.
يقولُ: فكذلك قُلُوبُ الأطفالِ في حِينِ وِلادتِهِم، ليس لهم كُفرٌ حِينئذٍ ولا إيمانٌ، ولا معرِفةٌ ولا إنكارٌ، كالبَهائم السّالمِةِ، فلمّا بَلَغُوا اسْتَهوتهُمُ الشَّياطِينُ، فكفرَ أكثرُهُم، وعصمَ اللَّهُ أقَلَّهُم.