للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالوا: ولو كان الأطفالُ قد فُطِرُوا على شيءٍ، على الكُفرِ أوِ الإيمانِ في أوَّليَّةِ أمرِهِم، ما انتَقلوا عنهُ أبدًا، وقد نَجِدُهُم يُؤمِنُون ثُمَّ يكفُرُون.

قالوا: ويستحِيلُ في المعقُولِ (١) أن يكونَ الطِّفلُ في حِينِ وِلادتِهِ يَعقِلُ كُفرًا أو إيمانًا؛ لأنَّ اللَّهَ أخْرَجهُم في حالٍ لا يَفقهُونَ معها شيئًا، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: ٧٨]، فمن لا يعلمُ شيئًا، استحالَ منهُ كُفرٌ أو إيمانٌ، أو معرِفةٌ أو إنكارٌ.

قال أبو عُمر: هذا القولُ أصحُّ ما قيلَ في معنى الفِطرةِ التي يُولَدُ النّاسُ عليها -واللَّه أعلمُ- وذلك أنَّ الفِطْرةَ: السَّلامةُ والاستِقامةُ، بدليلِ حديثِ عِياضِ بنِ حِمارٍ، عنِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حاكِيًا عن ربِّهِ عزَّ وجلَّ: "إنِّي خَلَقتُ عِبادِي حُنفاءَ" (٢)، يعني: على اسْتِقامةٍ وسَلامةٍ.

والحَنِيفُ في كلام العَرَبِ: المُستقِيمُ السّالِمُ، وإنَّما قيلَ للأعْرَج: أحنفُ، على جِهَةِ الفألِ، كما قيلَ للقَفرِ: مفازةٌ.

فكأنَّهُ -واللَّه أعلمُ- أرادَ الذينَ خُلِّصُوا من الآفاتِ كلِّها والزِّياداتِ، ومن المعاصِي والطّاعاتِ، فلا طاعَةَ منهُم ولا مَعْصِيةَ، إذا لم يَعملوا (٣) بواحِدةٍ منهُما، ألا ترَى إلى قولِ موسى في الغُلام الذي قتلهُ الخَضِرُ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: ٧٤]، لمّا كان عِندهُ ممَّن لم يبلُغِ العملَ فيكسِبَ الذُّنُوبَ.

ومن الحُجَّةِ أيضًا في هذا، قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: ١٦، والتحريم: ٧]، و: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: ٣٨]، ومن لم يبلُغ


(١) في د ٢: "العقول".
(٢) سيأتي بإسناده لاحقًا، وانظر تخريجه في موضعه.
(٣) في د ٢: "يعلموا".

<<  <  ج: ص:  >  >>