للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عُمر: القولُ فيما تقدَّم قبلَ هذا يُغني عنِ القولِ هاهُنا، وقد قال هؤلاءِ: ليست تلك المعرِفةُ بإيمانٍ، ولا ذلك الإقرارُ بإيمانٍ، ولكنَّهُ إقرارٌ من الطَّبِيعةِ للرَّبِّ، فِطرةٌ ألزَمَها قُلُوبهُم، فكفَوْنا بهذه المقالةِ أنفُسَهُم.

وقال آخرُونَ: الفِطرةُ: ما يُقلِّبُ اللَّهُ قُلُوبَ الخلقِ إليه مِمّا يُرِيدُ ويشاءُ، فقد يكفُرُ العبدُ ثُمَّ يُؤمِنُ، فيمُوتُ مُؤمِنًا، وقد يُؤمِنُ ثُمَّ يكفُرُ، فيمُوتُ كافِرًا، وقد يَكْفُرُ ثُمَّ لا يزالُ على كُفرِهِ حتّى يمُوتَ عليه، وقد يكونُ مُؤمِنًا حتّى يمُوتَ على الإيمانِ، وذلك كلُّهُ تقدِيرُ اللَّه وفِطرتُهُ لهم.

واحتجُّوا من الأثرِ بحديثِ عليِّ بنِ زيدٍ، عن أبي نَضْرةَ، عن أبي سعِيدٍ الخُدرِيِّ، عنِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قال: "ألا إنَّ بني آدم خُلِقُوا على طَبقاتٍ، فمنهُم من يُولدُ مُؤمِنًا ويحيا مُؤمِنًا ويمُوتُ مُؤمِنًا، ومنهُم من يُولَدُ كافِرًا ويحيا كافِرًا ويمُوتُ كافِرًا، ومنهُم من يُولَدُ مُؤمِنًا ويحيا مُؤمِنًا ويمُوتُ كافِرًا، ومنهُم من يُولدُ كافِرًا ويحيا كافِرًا ويمُوتُ مُؤمِنًا" (١). وقد مَضَى القولُ في إسنادِ هذا الحديثِ، فيما تقدَّم من هذا البابِ.

والفِطرةُ عِندَ هؤلاءِ: ما قَضاهُ اللَّهُ وقدَّرهُ لعِبادِهِ من أوَّلِ أحوالِهِم إلى آخِرِها، كلُّ ذلك عِندَهُم فِطْرةٌ، سَواءٌ كانت عِندَهُم حالًا واحِدةً لا تنتقِلُ، أو حالًا بعدَ حالٍ، كقولِهِ عزَّ وجلَّ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: ١٩]، أي: حالًا بعدَ حالٍ، على ما سبقَ لهم في عِلم اللَّه.

وهذا القولُ وإن كان صحِيحًا في الأصلِ، فإنَّهُ أضعفُ الأقاوِيلِ من جِهةِ اللُّغةِ في معنَى الفِطْرةِ، واللَّه أعلمُ.

فهذا ما انتهى إلَينا عنِ العُلماءِ أهلِ الفِقهِ والأثرِ، وهُمُ الجماعةُ، في تأوِيلِ حديثِ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلُّ مولُودٍ يُولَدُ على الفِطْرةِ".


(١) سلف تخريجه في هذا الباب.

<<  <  ج: ص:  >  >>