للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن أهلِ العِلم من يروِي هذا الخبر بنَصبِ الدَّهرِ على الظَّرفِ، يقولُ: أنا الدَّهرَ كلَّهُ بيدِي الأمرُ، أُقلِّبُ اللَّيل والنَّهار. ومنهُم من يروِيهِ بالرَّفع على معنى حديثِ مالكٍ ومن تابعهُ.

والمعنى فيه: أنَّ أهلَ الجاهِلِيَّةِ كانوا يذُمُّونَ (١) الدَّهر في أشعارِهِم وأخبارِهِم، ويُضِيفُونَ (٢) إليه كلَّ ما يَصْنعُهُ اللهُ بهم، وقد حَكَى اللهُ عنهُم قولَهُم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: ٢٤].

فنَهَى اللهُ عن قولِهِم ذلك، ونَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنهُ أيضًا بقولِهِ: "لا تَسُبُّوا الدَّهرَ". يعني: لأنَّكُم إذا سَبَبتُمُوهُ وذَممتُمُوهُ لما يُصِيبُكُم فيه من المِحنِ والآفاتِ والمصائبِ، وقعَ السَّبُّ والذَّمُّ على الله، لأنَّهُ الفاعِلُ ذلك وحدَهُ لا شرِيك لهُ، وهذا ما لا يَسَعُ أحدًا جهلُهُ، والوُقُوفُ على معناهُ، لما يتعَلَّقُ به الدَّهرِيَّةُ أهلُ التَّعطِيلِ والإلحادِ.

وقد نطقَ القُرآنُ، وصحَّتِ السُّنَّةُ بما ذكَرنا، وذلك أنَّ العربَ كان من شأنِها ذمُّ الدَّهرِ، عِندَما ينزِلُ بها من المكارهِ، فيقولُون: أصابَتْنا قوارِعُ الدَّهرِ، وبناتُ الدَّهرِ (٣)، وأبادَنا الدَّهرُ، وأتى علينا الدَّهرُ، ألا ترى إلى قولِ شاعِرِهِم (٤):

رَمَتني بناتُ الدَّهرِ من حيثُ لا أرَى ... فكيفَ بمن يُرمَى وليس برامِ

فلو أنَّها نبلٌ إذَنْ لاتَّقيتُها ... ولكنَّني أُرمَى بغيرِ سِهامِ


(١) في د ٢: "يسبون".
(٢) في د ٢: "فينسبون".
(٣) قوله: "وبنات الدهر" سقط من م.
(٤) هو عمرو بن قميئة، انظر: الأبيات في ديوانه، ص ٤٥ - ٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>