للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الشُّهداء وغيرِهم. وليس هذا مما اجتمعَ عليه العلماءُ، ألا ترَى أنَّ مالكًا ذكَر (١) عن هشام بن عُروة، عن أبيه، أنه قال: ما أُحِبُّ أن أُدفنَ في البَقيع، لَأنْ أُدفَنَ في غيرِه أحبُّ إليّ. ثم بيّن العِلةَ: مخافةَ أن يُنبَشَ له عظامُ رجلٍ صالح، أو يجاورَ فاجرًا. وهذا يستوي فيه البقيعُ وغيرُه، ولو كان له فضلٌ عندَه لأحبّه، واللَّه أعلم.

وقد يستَحسنُ الإنسانُ أن يُدفنَ بموضع قرابتِه وإخوانِه وجيرانِه، لا لفضلٍ ولا لدرجة، وقد كان عمرُ رضيَ اللَّه عنه يقول: اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ الشَّهادةَ في سبيلِك، ووفاةً ببلدِ رسولِك (٢). وهذا يحتملُ الوجهين؛ مذهبَ سعدٍ وسعيد، ومذهبَ عُروة، والأظهرُ فيه تفضيلُ البلد، واللَّهُ أعلم.

وقد احتجَّ قومٌ بهذا الحديثِ في إثباتِ عملِ المدينة، وأنَّ العملَ أوْلَى من الحديثِ عندَهم؛ لأنهم أنكَروا على عائشةَ ما روَته لما استَفاض عندَهم.

واحتَجَّ آخرون بهذا الخبر في دَفْع الاحتِجاج بالعملِ بالمدينة، وقالوا: كيف يُحتَجُّ بعملِ قوم تُجهَلُ السُّنةُ بينَ أظهُرِهم، وتعجَبُ أمُّ المؤمنين من نِسيانهم لها، أو جَهلِهم وإنكارِهم لما قد صنَعه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وسنَّه فيها، وصنَعه الخلفاءُ وجِلَّةُ الصحابة بعدَه، وقد صُلِّيَ على أبي بكرٍ وعمرَ في المسجد (٣)؟

قالوا: فكيف يصحُّ مع هذا ادّعاءُ عمل؟ أو كيف يسوغُ الاحتجاجُ به؟ وكثيرٌ ما كان يُصنَعُ عندَهم مثلُ هذا، حتى يُخبرُهم (٤) الواحدُ بما عندَه في ذلك فينصرِفونَ إليه.


(١) في الموطأ ١/ ٣١٨ (٦٢٥).
(٢) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ٥٩٥ (١٣٣١) عن زيد بن أسلم، عن عمر رضي اللَّه عنه.
(٣) ينظر: المصنَّف لعبد الرزاق ٣/ ٦٥ (٦٥٧٦)، ولابن أبي شيبة (١٢٠٩٢)، والأوسط لابن المنذر ٥/ ٤١٥ (٣١١٥)، وناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين، ص ٤٠٣.
(٤) في الأصل: "يخبره".

<<  <  ج: ص:  >  >>