للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإن قيل: قد قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلّا اللَّهُ، فإذا قالوها فقد عَصَموا دِماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحِسَابُهم على اللَّه" (١). فمَن قال: لا إلهَ إلا اللَّه: حرُم دمُه. قيل لقائل ذلك: لو تدَبَّرْتَ قولَه في هذا الحديث: "إلا بحقِّها" لَعلِمْتَ أنه خلافُ ما ظنَنْتَ، ألا ترَى أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ قد ردَّ على عُمرَ ما نزَع به من هذا الحديث، وقال: مِن حقِّها الزكاةُ، ففهِم عمرُ ذلك من قوله، وانصَرَف إليه، وأجمَع الصَّحابةُ عليه، فقاتَلوا مانعي الزكاة، كما قاتَلوا أهلَ الرِّدَّة، وسمّاهم بعضُهم أهلَ رِدَّةٍ على الاتِّساع، لأنهم ارتَدُّوا عن أداءِ الزكاة، ومعلومٌ مشهورٌ عنهم أنهم قالوا: ما ترَكْنا دينَنا، ولكن شحَحْنا على أموالِنا. فكما جاز قتالُهم عندَ جميعِ الصحابة على منْعِهم الزكاةَ، وكان ذلك عندَهم في معنى قوله عليه السلام: "إلّا بحَقِّها"، فكذلك مَن شقَّ عصَا المسلمين، وخالَف إمامَ جَماعتِهم، وفرَّق كلمتَهم؛ لأنّ الفرضَ الواجبَ اجتماعُ كلمةِ أهلِ دينِ اللَّه المسلمين على مَن خالَف دينَهم من الكافرين، حتى تكونَ كلمتُهم واحدةً، وجماعتُهم غيرَ مُفتَرقة.

ومن الحقوقِ المُريقةِ للدِّماء، المُبيحةِ للقتال: الفسادُ في الأرض، وقتلُ النفس، وانتهابُ الأهلِ والمال، والبَغيُ على السُّلطان، والامتِناعُ مِن حُكمِه. هذا كلُّه داخلٌ تحتَ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلّا بحقِّها"، كما يَدخُلُ في ذلك الزاني المُحْصَنُ، وقاتلُ النفس بغيرِ حقٍّ، والمُرتَدُّ عن دييه. وقد أمَر اللَّهُ عزَّ وجلَّ بقتالِ الفئةِ الباغيةِ بقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩].

وفي قوله: {فَقَاتِلُوا} دليلٌ على أنَّ الباغيَ إذا انهزَم عن القتال، أو ضعُف عنه بما لحِقه من الآفاتِ المانعةِ للقتال، حرُم دمُه، لأنَّه غيرُ مقاتِل، ولم نُؤْمَرْ بقتالِه إلا إذا قاتَل؛ لأنّ اللَّهَ تعالى قال: {فَقَاتِلُوا}. ولم يقل: فاقْتُلوا. والمقاتَلةُ إنما تكونُ لِمَن قاتَل، واللَّهُ أعلمُ؛ لأنها تقومُ من اثنين، وعلى هذا كان حكمُ عليٍّ رضي اللَّهُ عنه فيمَن


(١) سلف تخريجه في أثناء شرح الحديث التاسع عشر لزيد بن أسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>