أن سالمًا مولى أبي حُذيفةَ كان مع خيارِ أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم: عُمرُ وأبو سَلَمة بنُ عبد الأسد، فكان يؤمُّهم؛ لأنه جمع القرآن، وحديثُ عَمْرو بن سَلَمة؛ أمَّهم للقرآن (١). فقلت له: حديثُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُرُوا أبا بكر فليُصلِّ بالناس"، أليس هو خلافَ حديث أبي مسعودٍ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يؤُمُّ القومَ أقرؤُهم"؟ فقال: إنما قولُه لأبي بكر يُصلِّي بالناس إنما أراد الخلافة، وكان لأبي بكر فضلٌ بيِّن على غيرِه، وإنما الأمرُ في الإمامةِ إلى القراءة، وأما قصةُ أبي بكر فإنما أراد به الخلافة.
قال أبو عُمر: لما قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُرُوا أبا بكر يُصلِّي بالناس" في مرضِه الذي توفِّي فيه، واستخلَفه على الصلاة وهي عُظمُ الدين، وكانت إليه لا يجوزُ أن يتقدَّم إليها أحدٌ بحضرتِه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما مرِض استخلَف عليها أبا بكر، والصحابةُ متوافرون، منهم: عليٌّ وعُمرُ وعثمانُ رضي اللَّه عنهم، استدلَّ المسلمون بذلك وبغيره على فضل أبي بكر، وعلى أنه أحقُّ بالخلافة بعدَه، وعلِموا ذلك، فارتضَوا لدُنياهم وإمامتِهم وخلافتِهم مَن ارتضاه لهم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصل دينِهم؛ وذلك إمامتُهم في صلاتهم، ولم يكنْ يمنعُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أن يُصرِّحَ بخلافةِ أبي بكر بعدَه، واللَّهُ أعلم، إلا أنه كان لا ينطِقُ في دين اللَّه بهواه، ولا ينطِقُ إلا بما يُوحَى إليه فيه؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]، ولم يكن يوحَى إليه في الخلافة شيء، وكان لا يتقدَّمُ بين يدَي ربِّه في شيء، وكان يحبُّ أن يكونَ أبو بكر الخليفةَ بعدَه، فلما لم ينزِلْ عليه في ذلك وحيٌ ونصٌّ: لم يَأمُرْ بذلك، ولكنه أراهُم موضعَ الاختيار، وموضعَ إرادتِه، فعرَف
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣٣/ ٤٤٣ (٢٠٣٣٣) عن إسماعيل بن إبراهيم ابن عُليّة عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن عمرو بن سلمة، وأخرجه البخاري (٤٣٠٢) من حديث أبي قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمي عن عمرو بن سلمة، وفيه عندهما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وليؤمُّكم أكثَرُكُم قرآنًا" فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقّى من الرُّكبان فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ستِّ أو سبع سنين".