للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}. فقال سعيد: إن كان عندَه مالٌ فكاتِبْه، وإن لم يكنْ عندَه مال، فلا تُعَلِّقْه صحيفة يغدُو بها على الناس ويروح، فيسألُهم فيحرِجُهم فيُؤثِمُهم. فقال الحسن: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: صدقًا وأمانة، مَن أعطاه كان مأجورًا، ومن سُئِل فرَدَّ خيرًا كان مأجورًا (١).

قال أبو عُمر: قد رخَّص مالكٌ، وأبو حنيفة، والشافعيُّ، في مكاتبةِ مَن لا حِرفةَ له، وإن كان قد اختَلف قولُ مالكٍ في ذلك (٢). وكرِه الأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاق مكاتبةَ مَن لا حرفةَ له (٣)، ورُوِيَ نحوُ ذلك عن عمر، وابنِ عمر، ومسروق (٤). والحجَّةُ في السُّنةِ لا فيما خالفَها.

وفي حديث بَريرَةَ هذا دلالةٌ على أنَّ قولَ الله عزَّ وجلَّ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}. أنَّه الكسبُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسألْ بَريرَة: أمعكِ مالٌ أم لا؟ ولم يَنهَها عن السؤال، وقد يكونُ الكسبُ بالمسألة، وقد قيل: المسألةُ آخِرُ كسبِ المؤمن (٥). وقد كُوتبَت بَريرَةُ ولم يُعلَمْ لها كسبٌ واجب، واللهُ أعلم، ولم ينكِرْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.


(١) أخرجه البيهقي في الكبرى ١٠/ ٣١٨ (٢٢١٣٠) من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد العبدي، به.
(٢) ينظر: الأمّ للشافعيّ ٢/ ٨٨، والمدوّنة ٢/ ٤٧٣.
(٣) ينظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية لإسحاق بن منصور الكوسج ٨/ ٤٤٠٧، ٤٤٠٧ (٣٠٤٩). ولكن نقل ابن قدامة في المغني ١٠/ ٣٦٦ - ٣٦٧ عن أحمد بن حنبل رواية أخرى: أنه لا يُكْرَه، ووَجْه ذلك ما نقله عن ابن المنذر أن بريرة كاتبت ولا حِرْفة لها، ولم يُنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وينظر الإقناع لابن المنذر ٢/ ٤٢٣ - ٤٢٤.
(٤) ينظر: المصنِّف لعبد الرزاق ٨/ ٣٧٤، وتفسير ابن جرير الطبري ١٩/ ١٧٨، والأوسط لابن المنذر ١١/ ٤٦٥.
(٥) قوله: "آخِرُ كسْبِ المؤمن" قال القاضي عياض في المشارق ١/ ٢١: "مقصور؛ أرذله وأدْناه، وإن كان الخطابيُّ قد رواه بالمدِّ وحمله على ظاهره، وأنّ معناه: أنّ ما كنتم تقدرون على معيشةٍ من غيرها - يعني المسألة - فلا تسألوا". وقال ابن الأثير في النهاية ١/ ٢٩: "ويُروى بالمدّ، أي إن السؤال آخِرُ ما يكتسب به المرءُ عند العجز عن الكسب".
وينظر ما سيأتي في سياق شرح الحديث الثالث ليحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيِّب.

<<  <  ج: ص:  >  >>