للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا الحديث من الفقه: أن البشرَ لا يعلَمون ما غُيِّب عنهم وسُتِر، من الضَّمائر وغيرِها؛ لأنّه قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: "إنما أنا بَشَرٌ". أي: إني من البشَر، ولا أدري باطنَ ما تتحاكَمون فيه عندي وتختصِمون فيه إليَّ، وإنما أقضي بينَكم على ظاهرِ ما تقولون وتُدْلون به من الحِجَاج. فإذا كان الأنبياءُ لا يعلَمون ذلك، فغيرُ جائزٍ أن يصِحَّ دَعْوى ذلك لأحدٍ غيرِهم من كاهنٍ أو مُنجِّم، وإنما يعلَمُ الأنبياءُ من الغيبِ ما أعلِموا به بوجهٍ من وجوهِ الوحي.

وفيه أنّ بعضَ الناس أدرى بموقع الحُجّة وتصرُّف القولِ من بعض. قال أبو عُبيد (١): معنى قوله: "ألحنَ بحُجَّتِه"؛ يعني: أفطنَ لها وأجدَلَ بها. قال أبو عُبيد (٢): اللَّحَنُ بفتح الحاء: الفِطْنةُ واللَّحْنُ بالجزم: الخطأُ في القول.

وفيه أن القاضي إنما يَقْضي على الخَصْم بما يَسْمعُ منه من إقرارٍ، أو إنكارٍ، أو بيِّنات، على حَسَبِ ما أحكمَته السُّنةُ في ذلك، وفي ذلك ردٌّ وإبطالٌ للحُكم بالهَوى، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} الآية [ص: ٢٦].

وقد احتجَّ بعضُ أصحابنا بهذا الحديث في ردِّ حُكم القاضي بعلْمِه؛ لقوله: "فأقضيَ له على نحو ما أسمَعُ منه". ولم يقل: على نحوِ ما علِمتُ منه.

قال: وإنما تُعُبِّدْنا بالبينة أو الإقرار، وهو المسموعُ الذي قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضي على نحوِ ما أسمَعُ".

قال: والعِلّةُ في القضاءِ بالبيِّنة دونَ العلم التُّهْمةُ؛ لأنه يدَّعي ما لا يُعلمُ إلا من جهتِه، وقد أجمَعوا أنّ القاضيَ لو قتَل أخاه لعلمِه بأنه قتَل من لم يجبْ قتلُه من المسلمين لم يرِثْه، وهذا لموضعِ التُّهمَة، وأجمَعوا على أنَّه لا يقضي بعلمِه في الحدود.


(١) في غريب الحديث له ٢/ ٢٣٢ - ٢٣٣.
(٢) في الأصل: "عبيدة"، خطأ بيّن.

<<  <  ج: ص:  >  >>