للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عُمر: من أفضل ما يُحتجُّ به في أن القاضيَ لا يقضي بعلمِه، حديثُ مَعْمر، عن الزُّهريِّ، عن عُروة، عن عائشة، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعَث أبا جهْم على صدقة، فلاجَّه (١) رجلٌ في فَرِيضة، فوقَع بينَهم شِجاجٌ، فأتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وخبَّروه، فأعطاهم الأرْش (٢)، ثم قال: "إني خاطبٌ الناسَ، ومُخبرُهم أنكم قد رضِيتُم، أرضيتُم؟ ". قالوا: نعم، فصَعِد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - المنبرَ، فخطَب، وذَكَرَ القصَّةَ، وقال: "أرضيتُم؟ ". قالوا: لا. فهمَّ بهم المهاجِرونَ، فنزَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهُم، ثم صَعِد، فخطَب فقال: "أرضِيتُم؟ ". فقالوا: نعم (٣). وهذا بيِّنٌ؛ لأنه لم يؤاخِذْهم بعلمِه فيهم، ولا قضَى بذلك عليهم وقد عَلِم رِضَاهُم.

ومن حُجَّةِ مَن ذهَب إلى أن القاضيَ له أن يقضيَ بما علِمه، لأنَّ البيِّنة إنما تُعلِمْه بما ليس عندَه ليَعْلَمَه فيقضيَ به، وقد تكونُ كاذبةً وواهمةً، وعِلْمُه بالشيء أوكَدُ، وقد أجمَعوا على أن له أن يُعدِّلَ ويُسقِطَ العُدولَ بعِلْمِه، فكذلك ماعلِم صِحّتَه، وأجمَعوا أيضًا على أنَّه إذا علِم أن ما شهِد به الشُّهودُ على غيرِ ما شهِدوا به، أنَّه ينفِذُ علمَه في ذلك دونَ شهادتِهم ولا يقضي.


(١) أي: نازعه وتماى معه في الخصومة. ينظر: الصحاح (لجج).
(٢) الأرْشُ: دية الجراحات. الصحاح (أرش).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف ٩/ ٤٦٢ (١٨٠٣٢)، وعنه أحمد في المسند ٤٣/ ١١٠ - ١١١ (٢٥٩٥٨)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (٨٤٨) ثلاثتهم عن معمر بن راشد، به.
وأخرجه أبو داود (٤٥٣٤)، والنسائي في المجتبى (٤٧٧٨)، وفي الكبرى ٦/ ٣٤٧ (٦٩٥٤)، وابن ماجة (٢٦٣٨)، وابن أبي عاصم في الدِّيات (٢٧٥)، وابن الجارود في المنتقى (٨٤٥)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار ١١/ ٤٣٢ (٤٥٣٨)، وابن حبان في صحيحه ١٠/ ٣٣٩ - ٣٤٠ (٤٤٨٧)، والبيهقي في الكبرى ٨/ ٤٩ (١٦٤٤٤) من طرق عن معمر بن راشد، به. وإسناده صحيح، وقد اختُلف فيه على الزُّهري في وصلِه وإرساله، وصحَّح وصْلَه البيهقيُّ في معرفة السُّنن والآثار ١٢/ ٥٨ (١٥٨٥٢): "ومعمر بن راشد حافظٌ قد أقام إسناده، فقامت به الحُجَّة".

<<  <  ج: ص:  >  >>