للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحتجَّ بعضُهم بأمرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سوْدةَ زوجَه أن تحتجِبَ من ابنِ وَلِيدةِ زَمْعة (١)؛ لِما علِمَه ورآه من شبَهِه بعُتْبة، وقالوا: إنما يقضي بما يَسْمَعُ فيما طريقُه السمعُ من الإقرار أو البيِّنة، وفيما طريقُه علمُه قضَى بعِلْمِه.

ولهم في هذا الباب منازعاتٌ أكثرُها تشغيبٌ، والسلفُ من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاءِ القاضي بعلْمِه، على حسَبِ اختلافِ فقهاءِ الأمصارِ في ذلك.

وممّا احتجَّ به مَن ذَهَب إلى أن القاضيَ يقضي بعِلْمِه مع ما قدَّمنا ذِكْرَه، ما رويناه من طُرق عن عُروة، عن مجاهدٍ جميعًا، بمعنًى واحد، أن رجلًا من بني مخزوم استعدَى عمرَ بنَ الخطاب على أبي سفيانَ بن حرب، أنَّه ظلَمه حدًّا في موضع كذا وكذا من مكة، فقال عمر: إنِّي لأعلَمُ الناس بذلك، ورُبّما لعِبتُ أنا وأنتَ فيه ونحنُ غلمان، فإذا قدِمتُ مكّة، فأتِني بأبي سفيان. فلمّا قدِمَ مكّة، أتاهُ المخزوميُّ بأبي سفيان، فقال له عمر: يا أبا سفيان، انهَضْ إلى موضع كذا. فنهَض ونظَر عمر، فقال: يا أبا سفيان، خذْ هذا الحجَرَ من هاهنا، فضَعْه هاهنا. فقال: والله لا أفعلُ. فقال: والله لَتفعلَنَّ. فقال: لا أفعَلُ. فعَلاهُ عمرُ بالدِّرَّة وقال: خُذْه، لا أُمَّ لك، وضَعْه هاهنا، فإنّك ما علِمتُ قديمَ الظُّلم. فأخَذ الحجَرَ أبو سفيانَ ووضَعَه حيثُ قال عمر، ثم إنّ عمرَ استقبلَ القبلة، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ إذ لم تُمِتْني حتَّى غلَبتُ أبا سفيانَ على رأيه، وأذلَلْتَه لي بالإسلام. قال: فاستقبل أبو سفيانَ القبلة، وقال: اللهمَّ لك الحمدُ إذ لم تُمِتْني حتَّى جعلتَ في قلبي من الإسلام ما ذلَلتُ به لعمر (٢).


(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٢٨٣ (٢١٥٧) عن محمد بن شهاب الزُّهريّ، عن عروة بن الزُّبير عن عائشة رضي الله عنها، وهو الحديث التاسع لابن شهاب الزُّهري، وقد سلف مع تمام تخريجه والكلام عليه في موضعه.
(٢) أخرجه الفاكهي في أخبار مكّة ٣/ ٢٣٤ (٢٠٧٧)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ٨/ ١٥٣٥ (٢٧٩٤) من طريقين عن شبابة بن سوّار، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عُبيد الله عن مجاهد وحده، به.

<<  <  ج: ص:  >  >>