للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففي هذا الخبر قضَى عمرُ بعلمِه فيما قد علِمه قبلَ ولايته، وإلى هذا ذهَب أبو يوسف، ومحمدٌ، والشافعيُّ، وأبو ثور، سواءٌ عندَهم علِمَه قبلَ أن يلي القضاءَ، أو بعدَ ذلك، في مصْرِه كان أو في غير مصْرِه، له أن يقضيَ في ذلك كلِّه عندَهم بعلمِه؛ لأنَّ يقينَه في ذلك أكثرُ من شهادةِ الشهودِ الذين لا يُقطَعُ على غيبِ ما شهِدوا به، كما يُقطَعُ على صحةِ ما علِموا. وقال أبو حنيفة: ما علِمه قبلَ أن يليَ القضاءَ أو رآه في غيرِ مصرِه لم يقضِ فيه بعلمِه، وما علِمه بعدَ أن استقضَى أو رآه بمصرِه قضَى في ذلك بعلمِه، ولم يَحتَجْ في ذلك إلى غيرِه.

واتفَق أبو حنيفةَ وأصحابُه أنَّه لا يَقْضِي القاضي بعِلْمِه في شيءٍ من الحُدود، لا فيما علِمَه قبلُ ولا بعدُ، ولا فيما رآه بمِصْرِه ولا بغيرِ مِصْرِه (١). وقال الشافعيُّ وأبو ثور: حقوقُ الناسِ وحقوقُ الله سواءٌ في ذلك، والحدودُ وغيرُها سواء في ذلك، وجائز أن يقضيَ القاضي في ذلك كلِّه بما علِمه (٢).

وقال مالكٌ وأصحابُه: لا يقضي القاضي في شيءٍ من ذلك كلِّه بما علِمَه، حدًّا كان أو غيرَ حدٍّ، لا قبلَ ولايتِه ولا بعدَها، ولا يقضي إلا بالبيناتِ والإقرار (٣). وبه قال أحمدُ بنُ حنبل وأبو عبيد. وهو قولُ شريح، والشعبيّ (٤).

وفي قوله عليه السلام: "فأقضيَ له على نحوِ ما أسمَعُ منه" دليلٌ على إبطالِ القضاءِ بالظنِّ والاستحسان، وإيجابِ القضاءِ بالظاهر، ألا ترَى أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلَّم -


(١) ينظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي ٣/ ٣٦٩، والمبسوط للسرخسي ٩/ ١٢٥، وبدائع الصنائع للكاساني ٧/ ٧.
(٢) ينظر: الأم للشافعي ٦/ ٢٢٩، ومختصر اختلاف العلماء للطحاوي ٣/ ٣٦٩.
(٣) ينظر: المدوّنة ٤/ ٤٩٩، والتهذيب في اختصار المدوّنة للقيرواني ٣/ ٥٧٩ (٣٢٥٦)، وبداية المجتهد لابن رشد ٤/ ٢٥٣.
(٤) ينظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي ٣/ ٣٧٥، والمغني لابن قدامة ١٠/ ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>