للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قضَى في المُتلاعنَين بظاهرِ أمرِهما، وما ادَّعاه كلُّ واحدٍ منهما ونفاهُ، فأحلَفهُما بأيمانِ اللِّعان، ولم يَلتفِتْ إلى غير ذلك؟ بل قال: إن جاءتْ به على نعتِ كذا وكذا فهو للزوج، وإن جاءت به على نعتِ كذا وكذا فهو للذي رُمِيت به. فجاءت به على النعتِ المكروه، فلم يلتفِتْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - إلى ذلك، بل أمضَى حكمَ الله فيهما بعدَ أن سمع منهما، ولم يُعرِّجْ على المُمْكن، ولا أوجبَ بالشُّبْهة حكمًا؟ فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضي على نحْوِ ما أسمَعُ".

وأما قولُه عليه السلام: "فمَن قضَيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فلا يأخُذْه، فإنما أقطَعُ له قطعةً من النار"، فإنه بيانٌ واضحٌ في أن قضاءَ القاضي بالظاهرِ الذي تعبَّد به لا يُحِلُّ في الباطن حرامًا قد علِمه الذي قضَى له به، وأن حُكمَه بالظاهرِ بينَهم لا يُحِلُّ لهم ما حرَّم اللهُ عليهم.

مثال ذلك: رجلٌ ادَّعى على رجل بدَعْوى، وأقام عليه بيّنةَ زورٍ كاذبة، فقضَى القاضي بشهادتِهم بظاهرِ عدالتِهم عندَه، وألزَم المدَّعَى عليه ما شهِدوا به، فإنه لا يحِلُّ ذلك للمدَّعي إذا علِم أنَّه لا شيءَ له عندَه، وأن بينتَه كاذبةٌ، إما من جهةِ تعمُّدِ الكذب، أو من جهةِ الغلط.

ومما احتجَّ به الشافعيُّ وغيرُه لقضاءِ القاضي بعلمِه، حديثُ عُبادة: وأن نقومَ بالحقِّ حيثُما كنّا، لا نخافُ في الله لومةَ لائم (١). وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: ١٣٥]. وحديثُ عائشةَ في قصةِ هندٍ بنتِ أبي سفيان، قوله: "خُذي ما يكفيك وولدَك" (٢).


(١) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ٥٧٣ (١٢٨٧) عن يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه. وهو الحديث الموفي ثلاثين ليحيى بن سعيد الأنصاري، وقد سلف تمام تخريجه والكلام عليه في موضعه.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤٠/ ٢٧٩ (٢٤٢٣١)، والبخاري (٥٣٦٤)، ومسلم (١٧١٤) من حديث عروة بن الزُّبير عن عائشة رضي الله عنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>