للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك لو ثبَت على رجلٍ لرجلٍ حقٌّ بإقرارٍ أو بينة، فادَّعى دفعَه إليه والبراءةَ منه، وهو صادقٌ في دَعْواه، ولم يكنْ له بينةٌ، وجحَده المدَّعي الدفعَ إليه، وحلَف له عليه، وقبَض منه ذلك الحقَّ مرةً أُخرى بقضاءِ قاض، فإن ذلك ممّن قطَع له أيضًا قطعةً من النار، ولا يُحِلُّ له قضاءُ القاضي بالظاهرِ ما حرَّم اللهُ عليه في الباطن، ومثلُ هذا كثير. قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٨٨]. وهذه الآيةُ في معنى هذا الحديث سواء.

قال معمرٌ، عن قتادةَ في قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}. قال: لا تُدْلي بمالِ أخيك إلى الحاكم وأنت تعلمُ أنك له ظالمٌ، فإن قضاءَه لا يُحِلُّ لك شيئًا كان حرامًا عليك (١).

قال أبو عُمر: وعلى هذه المعاني كلِّها المذكورةِ في هذا الحديثِ المُستَنْبَطة منه، جرَى مذهبُ مالك، والشافعيِّ، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ بنِ حنبل، وإسحاق، وأبي ثور، وداودَ، وسائرِ الفقهاء، كلُّهم قد جعَل هذا الحديثَ أصلًا في هذا الباب. وجاء عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف، ورُوِي ذلك عن الشعبيِّ (٢) قبلهما في رجلين تعمَّدا الشهادةَ بالزورِ على رجلٍ أنَّه طلَّق امرأتَه، فقبل القاضي شهادتَهما؛ لظاهرِ عدالتِهما عندَه، وهما قد تعمَّدا الكذبَ في ذلك، أو غلِطا أو وَهَما، ففرَّق القاضي بينَ الرجلِ وامرأتِه بشهادتِهما، ثم اعتدَّت المرأةُ، أنَّه جائز لأحدِهما أن يتزوَّجَها وهو عالمٌ أنَّه كاذبٌ في شهادتِه، وعالم بأن زوجَها لم يطلِّقْها، لأنَّ حكمَ الحاكم لمّا أحلَّها للأزواج، كان الشهودُ وغيرُهم في ذلك سواء. وهذا


(١) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ١/ ٧٢، وابن جرير الطبري في تفسيره ٣/ ٥٥٢، كلاهما عن معمر بن راشد، به.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف ٨/ ٣٠٣ (١٥٥١٤) و ١٠/ ٨٩ (١٨٤٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>