وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ النَّسَقَ بالواو جائزٌ أنْ يُقالَ فيه: قبلُ وبعدُ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأُ بما بدأ الله به". فقد أخبرَ أنَّ اللهَ بدَأ بذِكْرِ الصَّفا قبلَ المروة، وعَطْفُ المروةِ عليها إنّما كان بالواو، وإذا كان الابتداءُ بالصَّفا قبل المروةِ سُنَّةً مسنونةً وعملًا واجبًا، فكذلك كلُّ ما رَتَّبه الله ونَسَقَ بعضَه على بعضٍ بالواو في كتابه من آيةِ الوضوء.
وهذا موضعٌ اختلَف فيه العلماءُ وأهلُ الأمصارِ وأهلُ العربية؛ فمذهبُ مالكٍ في أكثر الروايات عنه وأشهَرِها أنّ الواوَ لا تُوجِبُ التَّعقيبَ ولا تُعطى رُتبَةً. وبذلك قال أصحابُه، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابه، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، واللَّيث بن سعدٍ، والمُزنيِّ صاحبِ الشافعيِّ، وداودَ بن عليٍّ. قالوا فيمن غَسَلَ ذراعَيْه أو رجلَيْه قبل أن يغسِلَ وجهَه، أو قَدَّمَ غَسْلَ رجليه قبل غَسْلِ يدَيه، أو مَسَح برأسِه قبلَ غَسْلِ وجهِه: إنّ ذلك يُجزِئُه. إلّا أنّ مالكًا يَستَحِبُّ لمَن نكَّسَ وضُوءَه ولم يُصَلِّ أنْ يَستَأنِفَ الوضوءَ على نَسَقِ الآية، ثم يستأنفَ صلاتَه، فإن صلَّى لم يأمُرْه بإعادةِ الصلاة، لكنَّه يَستَحِبُّ له استنئافَ الوضوءِ على النَّسَقِ لمَا يستَقْبِلُ، ولا يَرى ذلك واجبًا عليه. هذا هو تحصيلُ مذهب مالكٍ.
وقد روَى عليُّ بنُ زيادٍ، عن مالكٍ قال: مَن غَسَلَ ذراعَيه، ثم وجهَه، ثم ذكَرَ مكانَه، أعادَ غَسلَ ذراعيه، وإن لم يذكُرْ حتى صلَّى أعادَ الوضوءَ والصلاةَ. قال عليٌّ: ثم قال بعدَ ذلك: لا يُعيدُ الصلاةَ، ويُعيدُ الوضوءَ لِمَا يستَقبِلُ.
وذكَرَ أبو مُصعَبٍ، عن مالكٍ وأهل المدينة، أنّ من قدَّمَ في الوضوءِ يدَيه على وجهِه، ولم يتوضَّأْ على ترتيبِ الآية، فعليه الإعادةُ لما صلَّى بذلك الوضوء.
وكلُّ من ذكرناه من العلماءِ مع مالكٍ يَسْتَحِبُّ أن يكونَ الوضوءُ نَسَقًا، والحُجَّةُ لمالكٍ ومَن ذكَرنا من العلماء أنّ سِيبُويَةَ وسائرَ البَصريِّين من النَّحويِّين