وإنّما قلنا: إنَّ حقَّ الواو في اللُّغة التَّسويةُ لا غيرُ، حتى يأتيَ إجماعٌ يدُلُّ على غير ذلك ويُبيِّنُ المرادَ فيه. والإجماعُ في آيةِ الوضوءِ معدومٌ، بل أكثرُ أهلِ العلم على خلافِ الشافعيِّ في ذلك، معَ ما رُوِيَ في ذلك عن عليٍّ وابن مسعود.
وأمّا ما ادَّعَوه من أنّ فِعْلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الآيةِ بيانٌ، كبَيانِه ركَعاتِ الصلواتِ، فخطَأٌ؛ لأنّ الصلواتِ فرضُها مُجمَلٌ لا سبيلَ إلى الوصولِ لمُرادِ الله منها إلّا بالبيان، فصارَ البيانُ فيها فرضًا بإجماعٍ، وليس آيةُ الوضوءِ كذلك؛ لأنّا لو تُرِكْنا وظاهِرَها، كان الظاهرُ يُغْنِينا عن غيرِه؛ لأنّها مُحكمَةٌ مُستَغْنيةٌ عن بيانٍ، فلم يكُنْ فعلُه فيها - صلى الله عليه وسلم - إلّا على الاستحبابِ وعلى الأفضل، كما كان يَبْدأُ بيَمينه قبلَ يسارِه، وكان يُحبُّ التَّيامُنَ في أمرِه كلِّه، وليس ذلك بفرْضٍ عندَ الجميع.
وأمّا ما احتَجُّوا به من قول الله عزَّ وجلّ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نبدَأُ بما بدأ اللهُ به". فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنّا كذلك نقولُ: نبدأُ بما بَدَأ الله به. هذا الذي هو أولى، ولسنا نختلفُ في ذلك، وإنّما الخلافُ بيننا وبينهم فيمَنْ لم يبدأْ بما بَدَأ الله به، هل يفسُدُ عملُه في ذلك أم لا؟ وقد أَرَيْناهُم أنّه لا يفسُدُ بالدلائلِ التي ذكَرنا، على أنّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأُ بما بَدَأ الله به" ظاهِرُه أنّه سُنّةٌ، واللهُ أعلمُ؛ لأنّ فعلَه ليس بفَرضٍ إلّا أن يصحَبَه دليلٌ يُدخِلُه في حيِّز الفُرُوض. ولو كان فَرْضًا لقال: ابدَءوا بما بَدَأ الله. يأمُرُهم بذلك. ولفظُ الأمر في هذا الحديث لا يُوجدُ إلا من رواية من يُحتجُّ به.
وهذا الإدخالُ والاحتجاجُ على غير مذهَبِ أصحابِنا المالكيِّين؛ لأنهم يذهبُون إلى أنَّ أفعالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوبِ أبدًا، حتى يقومَ الدليلُ على أنّها أُريدَ بها النَّدْبُ. وهذه المسألةُ خارجةٌ على مذهَبِهم عن أصلهم. هذا وقد يَنفصلُ من هذا بما يطولُ ذِكرُه. وقد يحتَمِلُ أن يُحتَجَّ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأُ بما بَدَأ الله به". على أنّ الواوَ لا تُوجِبُ التَّرتيبَ؛ لأنّها لو كانت تُوجِبُ التَّرتيبَ لم يحتَجْ رسولُ الله أنْ يقولَ لهم: