للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واختلَف العلماءُ في مقدارِ الجزية؛ فقال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: لا توقيتَ في ذلك، وإنّما هو على ما صُولِحوا عليه. وكذلك قال يحيى بنُ آدمَ، وأبو عُبيدٍ، والطبريُّ، إلّا أن الطبريَّ قال: أقلُّه دينارٌ، وأكثرُه لا حدَّ له إلّا الإجحافَ (١) والاحتِمالَ. قالوا: الجزيةُ على قدرِ الاحتمالِ بغيرِ توقيتٍ، يجتهِدُ في ذلك الإمامُ، ولا يُكلِّفُهم ما لا يُطِيقون، وإنّما يُكلِّفُهم من ذلك ما يَستطيعُون ويَخِفُّ عليهم. هذا معنى قولِهم.

وأظنُّ من ذهَب إلى هذا القولِ يحتجُّ بحديثِ عَمْرِو بن عوفٍ الذي قدَّمنا ذكرَه هذا البابِ؛ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صالَحَ أهلَ البَحْرين على الجزيةِ. وبما ذَكره محمدُ بن إسحاقَ، عن عاصمِ بن عُمرَ، عن أنسٍ، أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعَث خالدَ بن الوليدِ إلى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فأخَذه وأتَى به، فحَقَن له دَمَه وصالَحَهُ على الجزيةِ (٢)؛ وبحديثِ السُّدّيِّ، عن ابن عباسٍ، في مصالحةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ نَجْرانَ (٣)؛ ولما روَاه مَعْمرٌ، عن ابن شهابٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صالَح عَبَدَةَ الأوثانِ على الجزيةِ، إلّا ما كان من العربِ. ولا نعلَمُ أحدًا روَى هذا الخبرَ بهذا اللفظِ عن ابن شهابٍ إلّا مَعْمرًا.

وقال الشافعيُّ (٤): المقدارُ في الجزيةِ دينارٌ على الغَنِيِّ والفقيرِ من الأحرارِ البالغينَ، لا يَنْقُصُ منه شيءٌ. وحُجَّتُه في ذلك أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ، فأمَره أن يأخُذَ من كلِّ حالِمٍ دينارًا في الجزية. وهو المبَيِّنُ عن الله عزَّ وجلَّ مُرادَه - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا قال أبو ثورٍ.

قال الشافعيُّ (٥): وإن صُولِحُوا على أكثَرَ من دينارٍ جازَ، وإن زادوا وطابَتْ بذلك أنفسُهم قُبِل منهم، وإن صُولِحُوا على ضِيافةِ ثلاثةِ أيَّامٍ جاز، إذا كانتِ


(١) الإجحاف: تكليف المرء ما لا يطيق.
(٢) أخرجه أبو داود (٣٠٣٧)، والبيهقي ٩/ ١٨٦ من طريق محمد بن إسحاق، به.
(٣) أخرجه أبو داود (٣٠٤١)، والبيهقي ٩/ ١٨٧، ١٩٥، ٢٠٢ من طريق السدي، به.
(٤) الأم ٤/ ١٨٩، ومختصر المزني ٨/ ٣٨٤.
(٥) كذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>