للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأدركتُ رِجالًا ذَوي عَدَدٍ من أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ممّن شَهِدَ بدرًا، فبلَغنا أنهم كانوا يرَوْن أن يُهدَرَ أمرُ الفتنة، فلا يُقامَ فيها على رجلٍ قصاصٌ في قتلٍ ولا دم، ولا يرَوْن على امرأةٍ سُبِيَتْ فأُصيبت حدًّا، ولا يروْنَ بينَها وبينَ زوجِها مُلاعنة، ومَن رماها جُلِد الحدَّ، وتُردُّ إلى زوجِها بعدَ أن تعتدَّ من الآخَر.

قال ابنُ شهاب: وقالوا: لا يُضْمَنُ مالٌ ذهبَ، إلا أن يُوجدَ شيءٌ بعينِه فيُرَدَّ إلى أهلِه.

وقال ابنُ القاسم (١): بلَغني أنَّ مالكًا قال: الدماءُ موضوعةٌ عنهم، وأما الأموالُ فإنْ وُجِد شيءٌ بعينِه أُخِذ، وإلا لم يُتْبَعوا بشيء. قال ذلك في الخوارج.

قال ابنُ القاسم: وفرَّق بينَ المحارِبين وبينَ الخوارج؛ لأنَّ الخوارجَ خرَجوا واستَهْلكُوا ذلك على تأويلٍ يرَون أنه صوابٌ، والمحاربون خرَجوا فِسْقًا وخُلُوعًا على غيرِ تأويل، فيُوضعُ عن المحاربِ إذا تابَ قبل أن يُقدَرَ عليه حدُّ الحِرابَةِ، ولا تُوضعُ عنه حقوقُ الناس؛ يعني في دم ولا مال.

قال أبو عُمر: قال إسماعيلُ بنُ إسحاق: رأى مالكٌ قتلَ الخوارج وأهلِ القَدَرِ من أجلِ الفسادِ الداخل في الدِّين، وهو من بابِ الفسادِ في الأرض، وليس إفسادُهم بدون إفسادِ قُطّاع الطريقِ والمُحارِبينَ للمُسلمين على أموالهم؛ فوجَب بذلك قتْلُهم، إلا أنه يَرى استتابتَهم لعلّهم يُراجِعُون الحقَّ، فإن تمادَوْا قُتِلوا على إفسادِهم، لا على كُفرٍ.

قال أبو عُمر: هذا قولُ عامةِ الفقهاءِ الذين يرَون قتلَهم واستتابتَهم، ومنهم من يقول: لا يُتعرَّضُ لهم باستتابةٍ ولا غيرِها ما استتَروا ولم يبغُوا ويُحارِبوا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وجمهورِ أهلِ الفقه، وكثيرٍ من أهلِ الحديث (٢).


(١) في المدوّنة ١/ ٥٣٠.
(٢) ينظر: الأمّ للشافعي ٤/ ٢٢٩، والمغني لابن قدامة ٨/ ٥٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>