للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الحديثُ أصحُّ حديث يُروَى عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الماء، وهو ينفي التحديدَ في مقدارِ الماءِ الذي تلحقُه النجاسة، ويقضي أنَّ الماءَ طاهرٌ مطهَّر لكلِّ ما غلَب عليه، وأنَّ كلَّ ما مازَجه من النَّجاساتِ وخالَطه من الأقْذارِ لا يُفسِدُه إلّا أن يظهرَ ذلك فيه أويغلِبَ عليه، فإن كان الماءُ غالبًا مستهلكًا للنَّجاساتِ فهو مطهِّر لها وهي غيرُ مؤثِّرةٍ فيه، وسواءٌ في ذلك قليلُ الماءِ وكثيرُه.

هذا ما يُوجبُه هذا الحديثُ وإليه ذهَب جماعةٌ من أهل المدينة، منهم سعيدُ بنُ المسيِّب، وابنُ شهاب، وربيعةُ، وهو مذهبُ المدنيين من أصحاب مالكٍ ومَن قال بقولهم من البغداديين، وهو مذهبُ فقهاءِ البصرة، وإليه ذهَب داودُ بنُ عليّ، وهو أصحُّ مذهب في الماء من جهةِ الأثرِ ومن جهةِ النظر؛ لأنَّ اللهَ قد سمَّى الماءَ المُطلقَ طَهُورًا، يريدُ طاهرًا مطهِّرًا فاعلًا في غيرِه، وقد بيَّنّا وجهَ ذلك في اللغة في باب إسحاق (١).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الماءُ لا يُنجِّسُه شيءٌ" (٢)؛ يعني: إلا ما غلَب عليه فغيَّرَه؛ يريدُ في طعم، أو لون (٣)، أو ريح. وقد أوضَحنا هذا المعنى وذكَرنا فيه اختلافَ العلماء، وبيَّنا موضعَ الاختيارِ عندَنا في ذلك مُمهَّدًا مبسوطًا في باب إسحاقَ بنِ عبدِ الله بنِ أبي طَلْحةَ من هذا الكتاب، فلا معنَى لتكرير ذلك هاهُنا، والحمدُ لله.

وهذا الحديثُ ينقُضُ على أصحابِ الشافعيِّ ما أصَّلُوه في الفَرْق بينَ وُرودِ النجاسةِ على الماءِ وبينَ وُرودِه عليها؛ لأنهم يقولون: إن وُرودَ الماءِ في الأرض على النجاسة، أو في مُستنقع مثل الإناءِ وشِبْهِه، أنَّه لا يُطهِّرُه حتى يكونَ الماءُ قُلَّتين. وقد علِمنا أنَّ الذَّنوبَ الذي صبَّه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على بَوْلِ الأعرابيِّ لم يَعتبرْ فيه


(١) وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة، وقد سلف حديثه في الموضع المشار إليه في التعليق السابق.
(٢) سلف تخريجه في باب إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة كما هو مبيّنٌ في التعليق السابق.
(٣) قوله: "أو لون" لم يرد في الأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>