للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا حديثٌ صحيحٌ، وظاهِرُه عندي على غيرِ ما تأوَّلَه أبو جُحيفة، بدليلِ ما في حديث أنسٍ هذا؛ لأنَّ نهيَه - صلى الله عليه وسلم - عن ثَمَنِ الدَّم ليس من أُجرةِ الحَجّام في شيء، وإنّما هو كَنهيِه عن ثَمَنِ الكَلْب، وثَمَنِ الخَمْرِ والخِنْزير، وثَمَنِ الميتة، ونحوِ ذلك. ولما لم يكنْ نَهيُه عن ثَمَنِ الكَلْبِ تحريمًا لصيدِه، كذلك ليس تحريمُ ثَمَنِ الدَّم تحريمًا لأُجرِة الحَجّام؛ لأنه إنّما أخذَ أُجرةَ تعَبِه وعملِه، وكلُّ ما يُنتفَعُ به فجائزٌ بيعُه والإجارَةُ عليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من السُّنةِ قَصُّ الشَّارِب" (١). وقال: "أحفُوا الشَّواربَ، وأعفُوا اللِّحَى" (٢). وأمَرَ بحَلْقِ الرأسِ في الحجِّ (٣)، فكيفَ تَحرُمُ الإجارَةُ فيما إباحَه اللهُ ورسولُه قولًا وعملًا؟ فلا سبيلَ إلى تسليم ما تأوَّله أبو جُحيفةَ وإن كانت له صُحبةٌ؛ لأنَّ الأُصولَ الصِّحاحَ تَردُّه، ولو كان على ما تأوَّله أبو جُحَيفة، كان مَنْسوخًا بما ذكَرنا، وباللّه توفيقُنا.

وقال آخرون: كسبُ الحَجّام كسبٌ فيه دَناءةٌ، وليسَ بمُحرَّم. واحتجُّوا بحديثِ ابنِ مُحيِّصة (٤)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُرخِّصْ له في أكلِه، وأمَرَه أن يَعلِفَه


(١) هو في الصحيحين: البخاري (٥٨٨٨) من حديث ابن عمر، وفي مسلم (٢٦١) من حديث عائشة، وفيهما "الفطرة" بدلًا من السنة، والفطرة هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء عليهم السلام.
(٢) أخرجه مسلم (٢٥٩) وغيره من حديث ابن عمر.
(٣) يعني: لمن كان به أذى كما في الصحيحين: البخاري (١٨١٤)، ومسلم (١٢٠١) من حديث كعب بن عجرة.
(٤) هو في الموطأ (٢٧٩٣)، وسيأتي في باب ابن شهاب عن ابن محيصة، وسيرد المؤلف القول "عن ابن محيصة"، والحديث بكل حال مرسل، لا يصح. وينظر كلامنا عليه في مسند محيصة بن مسعود الأنصاري من كتابنا: المسند المصنف المعلل ٢٤/ ٢٥٧ - ٢٥٩ (١٠٨٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>