افتيات الإشارة على العبارة، فلا تخرج بها عن مألوف ما ينسجم مع الأسلوب العربي سواء من حيث اللغة أو النحو أو الاشتقاق أو الفنون الأدبية، ولا تخرج بها عن الدلالات التي توافق أسباب النزول والأخبار الموثوقة وعلوم الحديث والأصول والفقه، فكأن الإشارة ليست انبعاثا تلقائيا محضا ولكنها مقيدة- منذ البداية- بالكثير من العلوم العقلية والنقلية فما أشبه موقف اللفظة القرآنية فى هذا المجال بموقف من يتهيأ لارتياد الطريق الصوفي فكلاهما يتعرّى عن ظاهره، وكلاهما يخضع لما تتطلبه المعارف العقلية والنقلية من شرائط البداية، وكلاهما يصبح صافيا رائقا يشف درجة بعد درجة كلما زاد الصعود وارتقى القصود..
فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب.
قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد.
ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء، ولا عقيدة باطنية مستورة، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله- جل ذكره، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟! وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة»