الأصغر غنيمة عند الظفر كذلك للجهاد الأكبر غنيمة وهو أن يملك نفسه التي كانت فى يد عدوّيه: الهوى والشيطان، وبعد أن كانت ظواهره مقرا للأعمال الذميمة وباطنه مستقرّا للأحوال الدنيئة يصير محلّ الهوى مسكن الرضا، ومقرّ الشهوات والمنى محلّا لما يرد عليه من مطالبات المولى، وتصير النّفس مستلبة من إصرار الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والروح منزوعة من أيدى العلاقات، والسرّ مصونا من الملاحظات. وكما أنّ من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول وهو الخمس فما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب لا من كرائم العقبى ولا من ثمرات التقريب ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محررا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله» .
ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى، وهى: النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج ... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه.
ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ... »«حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر» .
أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه