للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سنة خمس وتسعين وستمائة (١٢٩٥ م)]

فيها أجدبت البلاد وشح النيل، وقد وصل إلى اثنى عشر ذراعا ثم هبط، فشرقت الأراضي ووقع الغلاء والقحط بالديار المصرية، وشحط سعر القمح إلى مائة وسبعين درهما كل أردب، وكذلك الفول، وبلغ سعر اللحم كل رطل سبعة دراهم، وبيع كل فروج بخمسة عشر درهما، وبيعت البيضة الواحدة بأربعة دراهم، وبيعت التفاحة والرمانة والسفرجلة كل واحدة منها بثلاثين درهما. واشتد الأمر على الناس حتى أكلوا الكلاب والحمير والبغال والخيل والجمال، ولم يبق عند أحد شيء من الدواب … حتى قيل صار يباع الكلب السمين بخمسة دراهم، والقط بثلاثة دراهم. فلما طال الأمر على الناس أرسل الله تعالى إليهم جرادا كثيرا فأكل الناس منه شيئا كثيرا حتى قيل كان يباع منه كل أربعة أرطال بدرهمين. وقد عم هذا الغلاء سائر البلاد … حتى البلاد الشامية، حتى مكة والمدينة وسائر أعمال الديار المصرية.

ثم أعقب هذا فناء عظيم حتى صار الناس يتساقطون موتى في الطرقات … قيل مات في هذه السنة من الناس نحو الثلث، حتى كفن الملك العادل كتبغا من ماله في مدة يسيرة من مات من العربان على الطرقات نحو مائتين وسبعين ألف إنسان، فجافت منهم الحارات والأزقة، وصار الرجل يكون ماشيا فيقع ميتا في الحال. وفي ذلك يقول ابن المعمار:

يا طالبا للموت قم واغتنم … هذا أوان الموت ما فاتا

قد رخص الموت على أهله … ومات من لا عمره ماتا

ثم كشف الله عن الناس هذه الكربة، وتراجع الأمر قليلا قليلا، وانحطت الأسعار، وانصلح الحال كما كان أولا، وزالت تلك الشدة العظيمة فكان كما قيل:

قل لمن يحمل هما ان هذا لا يدوم … مثل ما تفنى المسرات كذا تفنى الهموم

وفي هذه السنة - وهي سنة خمس وتسعين وستمائة - توفي الشيخ الزاهد الناسك سيدي فتح الأسمر رحمة الله عليه، وهو فتح بن عثمان الأسمر التكروري المراكشي، قدم من مراكش إلى دمياط على سبيل التجريد، وكان يسقى في دمياط الماء من الأسواق احتسابا من غير أن يأخذ من أحد شيئا، وكان يلازم الصلاة في المسجد مع الجماعة، وكان لا يرى إلا وقت الصلاة، وإذا سلم الإمام عاد إلى انعكافه. واستمر على ذلك حتى

<<  <  ج: ص:  >  >>