للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يقاس أهل مصر من قديم الزمان أعظم من هذه الشدة، ولا سمع بمثلها في التواريخ القديمة، وكان ذلك في الكتاب مسطورا … ففارق الناس أوطانهم وأولادهم وأهاليهم وتغربوا من بلادهم إلى بلد لم يطؤوها قط، وخالطوا أقواما غير جنسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكانت سنة مشؤومة على الناس، مباركة على المباشرين الدين بمصر، وصاروا هم الملوك يتصرفون في المملكة بما يختارونه من الأمور، ولا سيما ما فعلوه من جهات الشرقية والغربية وجهات الصعيد، ووضعوا أيديهم على رزق الناس والإقطاعات، ثم استدرجوا إلى أن أخذوا أموال الناس بغير حق شرعي، ثم استدرجوا ثانيا إلى أن أخذوا أموال الأوقاف، وصاروا ليس على يدهم يد، يفعلون ما شاؤوا من هذا النمط، فغنموا في هذه السنة أموالا جزيلة من البلاد مما أخذوه من خراج الناس … فكان مجيء ابن عثمان غنيمة للمباشرين، وبعض الأفراد الذين أودع عندهم الأمراء الجراكسة والعسكر الأموال والقماش وقتلوا في الواقعة، فقعدوا على تلك الودائع، وراحت على من راحت، فكان كما يقل في المعنى: "مصائب قوم عند قوم فوائد".

[سنة أربع وعشرين وتسعمائة (١٥١٨ م)]

فيها كان افتتاح شهر المحرم يوم الأربعاء، فطلع القضاة إلى القلعة، وهنوا ملك الأمراء خاير بك بالعام الجديد، ثم رجعوا إلى دورهم.

فلما كان يوم السبت رابع المحرم، شكا الناس من أدى العثمانية الذين بمصر، وتزايد منهم الفساد في حق الناس، وصاروا يتوجهون إلى الأماكن التي في زقاق الكحل والمسطاحي والتي في الجسر وحكر الشامي والأزبكية ويأخذون ما فيها من الأبواب والسقوف والشبابيك الحديد والطيقان، ويحملونها على الجمال بين الناس على النداء والإجهار، ويبيعونها بأبخس الأثمان، ولم يجدوا من يردهم عن ذلك.

ثم صاروا يطلعون بالنساء إلى القلعة ويتحشرون بهن في أطباق المماليك الذين بالقلعة، وصنعوا بالطباق أطباق بوزة، وصارت خانة برسم حرافهم. وصاروا يأخذون ما بالطباق من الأبواب والسقوف ويطبخون بها الطعام، حتى خربوا غالب السقوف التي بالقلعة.

ثم تزايد منهم الفساد حتى صاروا يخطفون النساء والصبيان المرد وعمائم الناس من الطرقات والأزقة والأسواق في النهار والليل، وصار الناس على رؤوسهم طيرة من العثمانية، ويجدون القتلى مرمية على الطرقات.

<<  <  ج: ص:  >  >>