فلما رأى الأمراء والعساكر هذه الأحوال الفاسدة تسحبوا من عنده إلى النواب، فأول من تسحب من عنده من الأمراء قجقار أمير سلاح فتوجه إلى النواب. فلما رأى العسكر ذلك صاروا يتسحبون من عنده قليلا قليلا حتى لم يبق معه إلى القليل من العسكر، فبان عليه عين الغلب، فكبس على النواب وقت غروب الشمس، فلم تكن إلا ساعة يسيرة حتى انكسر الملك الناصر وهرب بمن بقي معه من العسكر، فولى مدبرا إلى نحو الشام، فكان كما يقال في المعنى:
ما تفعل الأعداء في جاهل … ما يفعل الجاهل في نفسه
فدخل إلى الشام وبات في تربة تنم في ليلة الأربعاء سادس عشرى المحرم، فلما ولى الملك الناصر استولى الأمير نوروز وشيخ علي بركه وخزائن المال وملكوها، وقد انتصر شيخ ونوروز على الملك الناصر، وفي ذلك يقول الشيخ تقي الدين بن حجة الحموي من قصيدة يمدح بها الملك المؤيد شيخ:
وجمعت باللجون جم عساكر … دارت عليهم من سطاك دوائر
وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة … فكأن هاتيك السروج مقابر
فلما دخل شيخ ونوروز إلى الشام طلعوا إلى دار السعادة، واجتمع هناك سائر الأمراء وأحضروا القضاة الأربعة ورسموا بأن يكتبوا محضرا بأفعال الملك الناصر، بأنه سفاك للدماء، مدمن للخمر، فكتبوا محضرا بذلك وشهد فيه جماعة كثيرة من أعيان الناس، ثم خلعوا الملك الناصر من السلطنة. واشتوروا فيمن يولونه السلطنة، فقال نوروز لشيخ:"لا أنا ولا أنت تتسلطن، ولكن اجعلوا الخليفة العباس … هذا هو السلطان. ويكون الأمير شيخ أتابك العسكر ومدير المملكة بمصر، ويكون الأمير نوروز نائب الشام، ويحكم في البلاد الشامية من غزة إلى الفرات، يولى بها من يختار ويعزل من يختار". .. فتراضوا على ذلك، وحلف جميع الأمراء على ذلك، وتعاهد الأمير شيخ ونوروز على ذلك، وأن الخليفة إذا بقي سلطانا بمصر لا يعزل ولا يولى حتى يراجع في ذلك الأمير شيخ والأمير نوروز. ثم سلطنوا الخليفة العباس كما سيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
واستقر الأمير شيخ أتابك العساكر بمصر، واستقر الأمير نوروز الحافظي نائب الشام كما تقرر الحال عليه.