فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل
والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره
وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية ٦٩ من سورة النحل){مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} ما تركنا في اللوح المحفوظ {مِن شَيْءٍ} لم نثبته ونبينه {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} يوم القيامة {يُحْشَرُونَ} يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية ٤٠ من سورة النبأ)