للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أعني المرجئة-، وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات، حتى وقعوا في التشبيه" (١).

قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((لا يرى الجاهل إلا مفرِّطا أو مفْرِطاً)) (٢)، وقال الإمام الأوزاعيّ - رحمه الله -: ((ما من أمرٍ أمرَ الله به إلاّ عارض الشَّيطان فيه بخصلتين، لا يبالي أيّهما أصاب: الغلوّ، أو التَّقصير)) (٣)، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ((إِنَّ دين الله وضع على القصد، فدخل الشَّيطان فيه بالإفراط والتَّقصير، فهما سبيلان إلى نار جهنّم)) (٤).

وكما ظهرت هذه البدع المتقابلة في الأولين فهي في الآخرين أشد ظهوراً، قال ابن القيم - رحمه الله -: "ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناولُ القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)). وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام من قِبله، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً، والله المستعان" (٥).

ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً في الفِرق، كما كان الإسلام وسطاً في الملل؛ فكانوا وسطاً بين الغلوّ والتَّقصير، وهذا التوسّط مطلب العقلاء في كلّ زمان ومكان، وهو من أهمّ أسباب قبول الإسلام وانتشاره في المعمورة.

وبالجملة فإن كانت هذه البدع المتقابلة منتشرة منذ القِدم إلى وقتنا الحاضر، فإننا نجد الرد الواضح عليها من القرآن الكريم، إذ فيه من الخير ما يعجز الإنسان عن تعداده، فهو كتابٌ عظيمٌ اشتمل على الصدق والعدل، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ


(١) شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ (٢/ ٧٩٨ - ٧٩٩).
(٢) النهاية في غريب الأثر (٣/ ٨٣١).
(٣) ينظر: مجموع الفتاوى (٣/ ٣٨١).
(٤) نوادر الأصول للحكيم الترمذي (١/ ١٦٧).
(٥) مدارج السالكين (١/ ٣٤٣).

<<  <   >  >>