للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"ومما يجدر التنبه له أن الفرق بعد القرن الثالث اختلطت أصولها وتلاقحت، فأصبحت بقايا الخوارج أقرب للمعتزلة مع التزام أصولها الأولى، والرافضة سلكت سبيل المعتزلة (١) والجهمية في الكلاميات مع التزامها أصولها الأولى، والأشاعرة والماتريدية أخذت بكثير من أصول الجهمية والمعتزلة، والتجهم والاعتزال اندمج في أصول المتكلمين الأشاعرة، والتصوف اختلط بالفلسفة والاتجاهات الباطنية، وهكذا" (٢).

"أما من القرن الخامس وما بعده فقد تلاشت الفروق بين الفرق، واندمج كثير من أصول بعضها في أصول البعض الآخر، وصارت أعلام الفرق وراياتها تندرج تحت شعارات: الصوفية، والفلاسفة، والباطنية، والرافضة، وأهل الكلام. ثم ظهرت الشعارات الحديثة كالقوميات، والحزبيات والطائفية، والشعوبية، والعلمنة، والحداثة، والاتجاهات الفكرية، والأدبية والثقافية والسياسية، والفنية ... وكلها تدور في فلك أصول الأهواء القديمة، وتزيد عليها ضلالات المناهج الغربية الحديثة وانحرافاتها وكفرياتها" (٣).

ومن المهم أن نعلم أنه وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط (٤)، يقول ابن تيمية - رحمه الله - في تأكيد هذه الحقيقة - وهو من المهتمين بتاريخ الافتراق في الأمة كما يظهر من كتبه-: " الصحابة لم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا في مسائل الأسماء والأحكام ولا في الإمامة" (٥).

ومن المعلوم أن البدع التي نشأت في الأمة الإسلامية لم تظهر دفعة واحدة، ولا في زمن واحد، بل ظهرت في أزمنة مختلفة، وفي أماكن متباعدة، فقد مرت البدع المتقابلة منذ فجر الإسلام بمراحل؛ فقد ظهرت المحكمة الأولى من الخوارج، وهي أول الفرق ظهوراً، في زمن علي - رضي الله عنه - وقد استفحل خطرهم، حيث أخرجوا من دائرة الدين كل من ارتكب كبيرة من


(١) أدى الانتصار الكبير الذي حققه أهل السنة بقيادة الإمام أحمد، وانقلاب الدولة العباسية، إلى التنكيل بالمعتزلة والمبتدعة، وظهور حقيقة التشيع وانتساب القرامطة ونحوهم له، إلى تقارب أهل البدع وتمازجهم في مواجهة عودة السنة، والمعتزلة فرقة لها عقل ونظر لكن بلا جمهور، والشيعة لها جمهور ولا عقل لها ولا نظر، فكان أن اندمجت الفرقتان، واتفقتا على العدو المشترك "أهل السنة".
ينظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (١/ ٣٣٦).
(٢) دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها (١/ ١٤٥).
(٣) دراسات في الأهواء والفرق والبدع (١/ ١٨٧).
(٤) ينظر: ظاهرة الإرجاء (١/ ٢٨٨).
(٥) منهاج السنة النبوية (٦/ ٣٣٦)، وينظر: مجموع الفتاوى (٢٧/ ١٨٩).

<<  <   >  >>