للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَقديرُ الكلام: قولُه عليه السلام: ما عليكم أنْ تَفْعلوا؛ أي لا حَرَجَ عليكم في العَزْل (١).

وقولُه: "ما مِن نسَمةٍ كائنةٍ إلى يومِ القيامة" أراد: ما مِن نسَمةٍ قدَّر اللهُ أن تكونَ إلَّا ولا بُدَّ من كونها، فلا يُوجِبُ العَزْلُ منعَ الولدِ، كما لا يُوجبُ الاسْتِرسالُ أن يَأتيَ الولدُ، بل ذلك بيدِهِ تعالى لا إلهَ إلَّا هو.

وفيه أنَّ أُمَّ الولدِ لا يجوزُ بيعُها؛ لقولِه: وأحببْنا الفداءَ، فأرَدْنا أنْ نعزِلَ. والفداءُ هاهنا الثمنُ في البيع، أو أخْذُ الفداءِ من أقاربِهِنَّ من المشركين فيهِنَّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ قد ملَك ما وقَع في سَهْمِه من السَّبْيِ، فأرادوا الوَطْءَ، وخافوا الحملَ المانعَ من الفِداءِ والبيع، فهمُّوا بالعزلِ رجاءَ السلامةِ من الحَمْلِ في الأغلب، ولم يُقْدِموا على العزلِ حتى سألوا رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنَّ اليهودَ كانت تقولُ بينَ أظهُرِهم: إنَّ العزلَ هو الموؤودةُ الصُّغرَى. وكانوا أهلَ كتابٍ، فلم يُقْدِموا على العزلِ لما كان في نُفوسِهم من قولِ اليهود، حتى وقَفوا على ما في ذلك عندَ نبيِّهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي شريعتهم، فسألوا رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأباح لهم العزلَ، ولو كانت أُمُّ الولدِ يجوزُ بَيعُها، ولم يَمْنَعْ من ذلك حَمْلُها، لبَلَغوا من الوَطْءِ ما أحَبُّوا، مع حاجتِهم إلى ذلك، ولكنَّهم لما أرادوا الفِداءَ أحبُّوا العَزْلَ، ليَسْلمَ ذلك لهم، ثم لَمْ يُقْدِمُوا على ذلك حتى سألوا رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرَهم أنَّ اللهَ قد فرَغ من العبادِ، وقد علِم كلَّ نسَمةٍ كائنةٍ وقدَّرها، وجفَّ القلمُ بها، وما قَدَّرَ لَمْ يُصرَفْ.


(١) وتوضيح ذلك ما ذكره ابن منظور في "اللسان"، قال: (مَن رواه: لا عليكم أن لا تفعلوا. فمعناه عند النَّحويِّينَ: لا بأس عليكم أن لا تفعلوا؛ حُذف منه "بأس" لمعرفة المخاطَب به.
ومن رواه: ما عليكم أن لا تفعلوا. فمعناه: أيُّ شيءٍ عليكم أن لا تفعلوا؛ كأنه كَرِهَ لهم العَزْلَ ولم يُحرِّمْهُ). (لسان العرب "عزل").

<<  <  ج: ص:  >  >>