للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيه أنّ السُّؤالَ مَكروهٌ لمَن له أُوقيّةٌ من فِضَّةٍ. والأُوقيّةُ إذا أُطْلِقَت فإنّما يُرَادُ بها الفِضَّةُ دُونَ الذهب وغيره، هذا قولُ العلماء، ألا ترَى إلى حديثِ أبي سعيدٍ: "ليس فيما دونَ خمسِ ذَوْدٍ صدقةٌ، وليس فيما دونَ خمسةِ أوْسُقٍ صدقةٌ، ولا فيما دُونَ خمسِ أواقٍ صدقةٌ" (١). فلم يختَلف العلماءُ أنّه لم يَعْنِ بذلك إلّا الفضةَ دُونَ غيرِها، وما عَلِمْتُ أنّ أحدًا قال في الأُوقيّةِ المذكور في هذا الحديث: إنّه أراد بها غيرَ الفضَّةِ، وفي ذلك كفايةٌ.

والأُوقيّةُ أربعون درهمًا، وهي بدراهمِنا اليومَ ستُّون درهمًا أو نحوُها، فمَن سأل وله هذا الحدُّ (٢) والقَدْرُ من الفضَّة، أو ما يقومُ مقامَها ويكونُ عَدْلًا منها، فهو مُلْحِفٌ سألَ إلحافًا. والإلْحافُ في كلام العربِ: الإلحاحُ، لا خلافَ بينَ أهل اللغة في ذلك (٣)، والإلحاحُ على غيرِ الله مذمومٌ؛ لأنّه قد مدَح اللهُ سبحانه بضدِّه، فقال: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: ٢٧٣]. ولهذا قلتُ: إنّ السؤالَ لمن ملَك هذا المِقْدارَ مكروهٌ، ولم أقلْ: إنّه حرامٌ لا يَحِلُّ؛ لأنّ ما لا يَحِلُّ يَحرُمُ الإلحاحُ فيه وغيرُ الإلحاح، ويَحرُمُ التَّعرُّضُ له وفيه، وما عَلِمْتُ أحدًا من أهلِ العلم إلّا وهو يَكْرَهُ السؤالَ لمن ملَك هذا المقدارَ من الفِضّةِ، أو عَدْلهَا من الذهب، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ ملَك أربعين درهمًا، أو عَدْلَها من الذهب، أنْ يسألَ على ظاهرِ هذا الحديث. وما جاءَه من غير مسألةٍ فجائزٌ له أنْ يأكُلَه، إنْ كان من غيرِ الزكاة، وهذا ما لا أعلمُ (٤) فيه خلافًا، فإن كان من الزَّكاةِ، ففيه من الاختلافِ ما نُبيِّنُه إن شاء الله.


(١) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ٣٣٣ (٦٥٢)، وأخرجه البخاري (١٤٤٧) من طريق مالك، به.
(٢) بعده في د ١: "والعدد".
(٣) ينظر "لحف" من لسان العرب.
(٤) في ط: علمت.

<<  <  ج: ص:  >  >>