للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا دليلٌ على مدح البيانِ، وفَضْلِ البلاغةِ، والتَّعَجُّبِ بما يُسْمَعُ من فصاحةِ أهْلِها (١). وفيه المجَازُ والاستعارةُ الحسنةُ؛ لأن البيانَ ليس بسِحْرٍ على الحقيقة.

وفيه الإفراطُ في المدحِ؛ لأنَّه لا شيءَ في الإعْجابِ والأخْذِ بالقُلوبِ يبلُغُ مَبْلَغَ السِّحْرِ. وأصلُ لفظَةِ السِّحْرِ عندَ العربِ: الاسْتِمالَةُ، وكلُّ مَنِ اسْتَمالك فقد سحَرك. وقد ذهَب هذا القولُ منه -صلى الله عليه وسلم- مثلًا سائرًا في الناسِ (٢) إذا سمِعُوا كلامًا يُعْجِبُهم قالوا: إن من البيانِ لَسِحْرًا. ويقولون في مثلِ هذا أيضًا (٣): هذا السحرُ الحلالُ. ورُوِي أن سائلًا سأل عمرَ بنَ عبدِ العَزِيزِ حاجةً بكلام أعْجَبه، فقال عمرُ: هذا واللّه السِّحرُ الحلال (٤). ومن هاهنا أخذ ابنُ الرُّوميِّ، فيما أحسَبُ (٥) هذا المعنى، فأحْسَنَ (٦):


(١) في ق، ج: "فعلى هذا المذهب في هذا الحديث فضل البلاغة واللسانة"، والمثبت من د ١.
(٢) هكذا ق، ج، وفي د ١: "سير المثل في الناس".
(٣) في د ١: "وربما قالوا في ذلك"، والمثبت من ق، ج.
(٤) ذكره البغوي في شرح السّنة ١٢/ ٦٥.
(٥) في ج، م: "وقال ابن الرومي عفا الله عنه في" والمثبت من د ١.
(٦) ديوانه ٣/ ١١٦٤، وفيه البيت الثالث بلفظ:
شَرَكُ النُّفوس وفتنةٌ ما مِثلُها ... للمطمئنِّ وعُقْلة المُستَوفِزِ
وكذا وقع لفظه في الخصائص لابن جنِّي ١/ ٣١، وفي الأمالي لأبي عليّ القالي ١/ ٨٤، وفي جمهرة الأمثال للعسكري ١/ ١٥.
وقوله: "شَرَكُ العُقول" الشَّرَك: حبائل الصيد، والمعنى أن حديثها يصيد العقول قَنْصًا من شدَّة ميل النفوس إليه.
وقوله: "وعُقْلَة المُستَوفِزِ" العُقْلة: الحَبْسُ والإمساك، والمُستَوفِز: المُستَعجل.
وقال ابن أبي الإصبع العدواني في تحرير التحبير، ص ٥٤١ في شرحه لهذه الأبيات: وليس للمختار حالةٌ زائدة على هاتين الحالتين: إمّا أن يكون مطمئنًّا، أو مُستَوفِزًا، فإن كان مطمئنًّا كان هذا الحديث نزهته، وإن كان مستوفِزًا كان عُقلتَه. فلم يُبْقِ في هذا المعنى مقالًا لمَن بعده.

<<  <  ج: ص:  >  >>