للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا الحديثِ أيضًا (١) مِن الفقه: أنَّ كلَّ مَن جعَلَ على نفسِه نذرًا أن يعصِيَ اللهَ، كالجاعلِ عليه: إن الله شفَى مريضَه، أو ردَّ غائبَه، أو نحوَ ذلك، أنْ يشرَبَ الخمرَ، أو يقتُلَ، أو يزني، أو يظلِمَ أحدًا، ونحو ذلك مِن المعاصِي؛ صغائرِها وكبائرِها، أو كالقائلِ مُبتدئًا: لله عليّ أنْ أقتُلَ فُلانًا، أو أشهَدَ عليه بزور، أو أبغيَ عليه وأشفِيَ غيظِي بأذاه. وما أشبَهَ ذلك مِن قليلِ المعاصِي وكثيرِها، فلا يلزَمُه شيءٌ من (٢) ذلك كلِّه؛ لأنّه مِن خُطواتِ الشَّيطانِ، وعليه تركُه فرضًا واجبًا، ولا كفَّارةَ عليه غيرُ ذلك، بظاهرِ هذا الحديثِ؛ لأنَّه لم يأمُرْه فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بكفَّارةً. وكذلك من نذَر ما ليس بطاعةٍ، فليس عليه الوفاءُ به عندَ مالكٍ، ولا كفَّارةَ عليه.

وقال مالكٌ (٣) في تأويلِ هذا الحديثِ: إنْ حلَفَ أنْ يمشِيَ إلى الشام، أو إلى مصر، وأشباهِ ذلك ممَّا ليس فيه طاعة، فليس عليه في ذلك شيءٌ؛ لأنّه ليس لله تعالى فيه طاعة.

وأمَّا قولُ مالكٍ فيمَن قال: أنا أحمِلُ هذا العمودَ أو غيرَه إلى مكةَ (٤)،


= وقال: "وسبب اختلافهم: تعارضُ ظواهرِ الآثار في هذا الباب، وذلك أنه رُويَ في الباب حديثان، أحدهما: حديث عائشة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "من نَذَر أن يطيع الله فليُطعه ... " الحديثَ، فظاهرُ هذا أنّه لا يلزم النَّذرُ بالعصيان.
والحديث الثاني: حديث عمران بن حصين، وحديث أبي هريرة الثابت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا نَذْر في معصية الله ... " الحديث، وهذا نصّ في معنى اللزُّوم. فمَن جمع بينهما في هذا، قال: "الحديث الأوَّل تضمَّن الإعلام بأنّ المعصية لا تلزمُ، وهذا الثاني تضمَّن لزومَ الكفّارة. فمن رجَّح ظاهر حديث عائشة إذْ لم يصحَّ عنده حديثُ عمران وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيءٌ، ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجَبَ في ذلك كفّارة يمين".
(١) "أيضًا" من ج، ولم ترد في ق، د ١، وهي مستحسنة، لقوله قبل قليلٌ: "وفي هذا الحديث من الفقه".
(٢) في ق: "في"، والمثبت من بقية النسخ.
(٣) ينظر: المدوّنة ١/ ٥٨٦.
(٤) نقله عنه ابن القاسم في المدوَّنة ١/ ٤٧٢، والطحاوي في مختصر اختلاف العلماء ٢/ ٢٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>