للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثنا المذكورِ في هذا البابِ: "أكُلَّ ولَدِكَ نحَلْتَه مثلَ هذا؟ ". فإنَّ العلماء مُجمعونَ على استِحبابِ التَّسوِيَةِ في العَطِيَّةِ بينَ الأبناء، إلَّا ما ذكَرنا عن أهلِ الظَّاهرِ من إيجابِ ذلك.

ومع إجماع الفقهاء على ما ذكَرنا من استِحبابِهم، فإنَّهم اختَلَفوا في كيفِيَّةِ التسوِيَةِ بينَ الأبناء في العَطِيَّةِ، فقال منهم قائلُون: إنَّ التَّسويَةَ بينَهم أن يُعْطِيَ الذَّكَرَ مثلَ ما يُعْطِي الأُنثَى. وممَّن قال ذلك: سفيانُ الثوريُّ، وابنُ المباركِ. قال ابنُ المباركِ: ألا تَرَى الحديثَ يُروَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سوُّوا بينَ أولادِكم، فلو كنتُ مؤثِرًا أحدًا آثَرْتُ النِّسَاء على الرِّجالِ"؟ وقال آخرون: التَّسوِيَةُ أن يُعطِيَ للذكرِ مثلَ حظِّ الأُنثيَيْنِ، قياسًا على قَسْمِ الله المواريثَ بينَهم، فإذا قَسَمَ في الحياةِ قَسَم بحُكْمِ الله عزَّ وجلَّ. وممَّن قال هذا القولَ؛ عطاءُ بنُ أبي رباح، رَوَاه ابنُ جُرَيْج عنه. وهو قولُ محمدِ بنِ الحسنِ، وإليه ذهَبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحاقُ بنُ راهُويَة (١)، ولا أحفَظُ لمالكٍ في هذه المسألةِ قولًا.

وأمَّا قولُه: "فارْجِعْه". ففيه دليلٌ على أنَّ للأبِ أن يَرجِعَ فيما وهَب لابنِه، على ظاهِرِ حديثِ ابنِ شهابٍ وغيرِه. وهذا المعنى قد اختَلَف فيه الفقهاءُ؛ فذهَب مالكٌ، وأهلُ المدينةِ، أنَّ للأبِ أن يَعْتَصِرَ ما وهَبَ لابنِه. ومعنى الاعْتِصارِ عندَهم: الرُّجوعُ في الهِبَةِ (٢)، وليس ذلك لغيرِ الأبِ عندَهم، وإنَّما ذلك للأبِ وحدَه، وللأُمِّ أيضًا أن وهَبت لابنِها شيئًا وأبوه حَيٌّ أن تَرجِعَ، فإن كان يتيمًا، لم يكنُ لها الرُّجوعُ فيما وهَبت له، لأنَّ الهِبَةَ لليتيمِ كالصدقةِ التي لا رُجوعَ فيها لأحدٍ.


(١) انظر: الأوسط لابن المنذر ١٢/ ٢٧، ومختصر اختلاف العلماء للطحاوي ٤/ ١٤٤، ومعالم السنن للخطابي ٣/ ١٧٣، والمغني لابن قدامة ٦/ ٥٣.
(٢) قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة ٢/ ١٣: قال شمر: قال ابن الأعرابي في قوله: يعتصر الرجل مال ولده، قال: يعتصر: يسترجع.

<<  <  ج: ص:  >  >>