للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا أوْلى ما حُمِل عليه هذا الحديثُ، واللهُ أعلمُ؛ لأنَّ فيه قولَ عبدِ بنِ زَمْعَةَ: أخي وابنُ وليدَةِ أبي، وُلِد على فِراشِه. فلم يُنكِر عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قولَه: وُلِدَ على فِراشِه. فدَلَّ على أنَّه قد عَلِمَ بوَطْءِ زَمْعَةَ لوَليدَتِه، فلذلك لم يُنكرِ الفِراشَ، وكانت سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ زَوْجتَه - صلى الله عليه وسلم -، ومثلُ هذا لا يخفَى مِن أفعالِ الصِّهْرِ على صِهْرِه، فلمَّا لم يُنكِرْ قولَ عبدِ بنِ زَمْعَةَ: وُلِد على فِراشِه، دلَّ على أنَّه قد كان عَلِم بأنَّها كانت فِراشًا له بمَسِّه إيَّاها، فقَضَى بما عَلِم مِن ذلك، ولولا ذلك لم يُلْحِقِ الوَلَدَ بزَمْعَةَ بدَعْوَى أخيه؛ لأنَّ سُنَّتَه المجتَمَعَ عليها أنَّه لا يُؤخَذُ أحَدٌ بإقْرَار غيرِه عليه، إلَّا أنَّ في هذا التَّأويلِ ما يُوجِبُ قَضاءَ القاضي بعِلْمِه، وهو مما يَأْبَاه مالِكٌ وأصحابُهُ.

وأمَّا قولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: "احْتَجِبي منه يا سَوْدَةُ"، فقد أشْكَلَ مَعْنَاه قديمًا على العلماءِ؛ فذهَبَ أكثرُ القائلين بأنَّ الحرامَ لا يُحرِّمُ الحلالَ، وأنَّ الزِّنَى لا تَأْثِيرَ له في التحريم، إلا أنَّ قولَه ذلك كان منه على وجْهِ الاخْتِيارِ والتَّنزُّهِ، وأنَّ للرجلِ أن يَمْنَعَ امْرَأتَه مِن رُؤَيَةِ أخيها. هذا قولُ أصحابِ الشافعيِّ (١).

وقالت طائفةٌ: كان ذلك منه لقطعِ الذريعةِ بعدَ حُكْمِه بالظاهِر، فكأنَّه حكَم بحُكْمَيْن؛ حُكْمٍ ظاهِرٍ وهو الولدُ للفِرَاشِ، وحُكْمٍ باطِنٍ وهو الاحْتِجابُ مِن أجْلِ الشَّبَهِ، كأنَّه قال: ليس بأخٍ لكِ يا سَوْدَةُ إلا في حُكْمِ الله بالوَلَدِ للفِراشِ، فأمَرَها بالاحتِجاب منه (٢). قال ذلك بعضُ أصْحابِ مالِكٍ (٣)، وضارَعَ في ذلك قولَ العِراقيِّين. وأمَّا الكوفيُّون، فذَهَبوا إلى أنَّ الزنى يُحرِّمُ، وأنَّ له في هذه القِصَّةِ


(١) قال النَّووي: "أمْرُه لسودةَ بالاحتجاب، فذلك على سبيل الاحتياط والورع والصِّيانة لأُمّهات المؤمنين؛ لما راه من الشَّبَه بعُتبةَ بن أبي وقاص". المجموع شرح المهذّب ١٧/ ٤٢٩. وينظر: الحاوي الكبير للماوردي ١١/ ١٥٥، وبداية المجتهد لابن رشد.
(٢) في ج، م: "فاحتججي منه لما رأى من شبهه لعتبة"، والمثبت من الأصل، ف ٢.
(٣) ينظر: بداية المجتهد لابن رشد ٤/ ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>