قال المُزَنيُّ: فلَمَّا لم يَصِحَّ أنَّه أخٌ؛ لعَدَم البيِّنةِ، أو الإقرارِ ممَّن يلْزَمُه إقرارُه، وزادَه بُعْدًا في القلوبِ شَبَهُه بعُتبةَ، أمَرَها بالاحْتِجابِ منه، وكان جوابُه - صلى الله عليه وسلم - على السُّؤالِ، لا على تحقيقِ زِنَى عُتْبةَ بقولِ أخيه، ولا بالوَلَدِ أنَّه لزَمْعَةَ بقولِ ابنِه، بل قال:"الولَدُ للفِرَاشِ". على قولِك: يا عَبْدَ بنَ زَمْعَة، لا على ما قال سعدٌ. ثم أخبرَ بالذي يكونُ إذا ثَبَت مثلُ هذا.
قال أبو عُمر: لم يَصْنَع المُزَنيُّ شيئًا؛ لأنَّ المسلمين مُجمِعُون أنَّ حُكْمَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ عبدِ بن زَمْعَةَ وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ حُكْمٌ صحيحٌ، نافِذٌ في تلك القِصَّةِ بعينِها، وفي كلِّ ما يكونُ مثلَها، وليست قِصةُ داودَ - صلى الله عليه وسلم - مع المَلكَيْن كذلك؛ لأنَّهما إنَّما أرادا تَعْريفَه لا الحُكْمَ عليه، وكان أمْرًا قد نَفَذ، فعَرَّفاه بما كان عليه في ذلك، وحُكْمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كذلك؛ لأنَّه حُكْم استَأنفَه وقَضَى به ليُمْتَثَلَ في ذلك وفي غيرِه.
وقال محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ: مَعْنَى قولِه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ:"هو لك يا عَبْدَ بنَ زَمْعَةَ"؛ أي: هو لك عبدٌ مِلْكًا، لأنَّه ابنُ وليدَةِ أبيك، وكلُّ أمَةٍ تَلِدُ مِن غيرِ سَيِّدِها، فوَلَدُها عبدٌ. يُرِيدُ أنَّه لما لم يُنْقَلْ في الحديثِ اعْتِرافُ سَيِّدِها بوَطْئِها، ولا شُهِد بذلك عليه، وكانتِ الأُصولُ تَدْفَعُ قبُولَ قولِ ابنِه عليه، لم يَبْقَ إلَّا القضاءُ بأنَّه عبدٌ، تَبعٌ لأُمِّه، وأمرَ سوْدَةَ بالاحْتِجابِ منه لأنَّها لم تَمْلِكْ منه إلَّا شِقْصًا (١).
وهذا أيضًا مِن الطبريِّ تحكمٌ خِلافَ ظاهِرِ الحديثِ، ومَن قال له: إنَّها ولَدَتْ مِن غيرِ سيِّدِها؟ وهو يرَى في الحديثِ قولَ عبدِ بنِ زمْعَة: أخي، وابنُ وليدَةِ أبي، وُلِدَ على فِراشِه. فلم يُنْكِرْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قولَه، وقَضَى بالولَدِ للفِرَاش، وقد قدَّمْتُ لك مِن الإجْماع على أنَّ الولَدَ لاحِقٌ بالفِراشِ، وأنَّ ذلك مِن حُكْمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
(١) والشِّقْص: النَّصيب المعلوم غير المفروز، مثل سَهْم من سهمين، أو من عشرة أسْهُم. ينظر: تهذيب اللغة للأزهري ٨/ ٢٤٥.