وقال آخرون: إنّما نهى عن الأكْلِ من رأسِ الصحفةِ لأنَّ البركةَ تنزِلُ منها، ونهى عن القِرانِ بينَ تمرتينِ لما فيه من سوءِ الأدبِ أن يأكُلَ المرءُ مع جليسِه وأكيلِه تمرتينِ في واحد، ويأخُذَ جليسُه تمرة، فمن فعَل فلا حرج، وكذلك النَّهيُ عن الشُّربِ من فيّ السِّقاءِ خوفَ الهوامِّ؛ لأنَّ أفواهَ الأسقيةِ تَقْصِدُها الهوامُّ، وربما كان في السِّقاءِ ما يُؤذِيه، فإذا جعَل منه في إناءٍ رَآه وسلِم منه.
وقالوا في سائرِ ما ذكَرنا نحوَ هذا ممّا يَطولُ ذكرُه. وما أعلمُ أحدًا من العلماءِ جعَل النهيّ عن أكلِ كلِّ ذي نابٍ من السِّباع من هذا الباب، وإنّما هو من البابِ الأوّل، إلّا أنَّ بعضَ أصحابنا زعَم أنَّ النَّهيَ عن ذلك نهيُ تنزُّهٍ وتَقَذُّر. ولا أدري ما معنى قوله: نهيُ تَنزُّهٍ وتَقَذُّر. فإن أرادَ به نهيَ أدب، فهذا ما لا يُوافَقُ عليه، وإن أراد أنَّ كلَّ ذي نابٍ من السِّباع يجبُ التَّنزُّهُ عنه كما يجبُ التَّنزُّهُ عن النَّجاساتِ والأقذار، فهذا غايةٌ في التَّحريم؛ لأنَّ المسلمين لا يختلِفون في أنَّ النَّجاساتِ مُحرَّماتُ العين أشدَّ التَّحريم، لا يَحِلُّ اسْتباحةُ أكلِ شيءٍ منها، ولم يُردِ القائلون من أصحابِنا ما حكينا هذا عنهم، ولكنَّهم أرادُوا الوجهَ الذي هو عندَ أهل العلم ندْبٌ وأدبٌ؛ لأنَّ بعضَهم احتجَّ بظاهرِ قول اللَّه عزَّ وجلَّ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآيةَ [الأنعام: ١٤٥]. وذكَر أنَّ من الصحابةِ منِ استعملَ هذه الآيةَ ولم يُحرِّمْ ما عداها، فكأنّه لا حرامَ عندَه على طاعم إلّا ما ذُكِر في هذه الآية.
ويَلزمُه على أصلِه هذا أن يُحِلَّ أكلَ الحُمُرِ الأهليّة، وهو لا يقولُ هذا في الحُمُرِ الأهلية؛ لأنّه لا تعملُ الذَّكاةُ عندَه في لُحومِها ولا في جُلودِها، ولو لم يكنْ عندَه مُحرّمًا إلّا ما في هذه الآيةِ لكانت الحُمرُ الأهليّةُ عندَه حلالًا،