للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥]. ولو جاز أن تردَّ مثلُ هذه السُّنةِ المشهورةِ عندَ علماءِ المدينةِ وغيرِهم، بأنَّ الوهَمَ والغَلطَ مُمْكِنٌ فيها، لجاز ذلك في سائرِ السُّننِ، حتى لا يَبقَى بأيدي المسلمينَ سنةٌ إلَّا قليلٌ ممَّا اجتُمِع عليه، وبالله التوفيق.

ذكر الحسنُ الحُلْوَانيُّ (١)، قال: حدَّثنا بِشْرُ بنُ عمرَ، قال: سمِعتُ مالكَ بنَ أنسٍ كثيرًا إذا حدَّث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحديثٍ، فيُقالُ له: وما تقولُ أنت، أو ما رأيُكَ؟ فيقولُ مالكٌ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ٦٣].

قال أبو عُمر: مِن أقبَح ما جاء به أهلُ الكوفةِ في هذه المسألةِ دَعْواهم أنَّ ذلك في الودائع والأماناتِ، وهذا تَجلِيحٌ (٢) وتَصْرِيحٌ برَدِّ السنةِ بالرَّأي؛ لأنَّ في حديثِ هذا البابِ قولَه: "مَن باع مَتاعًا، فأفلَس المبتاعُ" فذكَرَ البيعَ مِن وُجُوهٍ كثيرةٍ بألفاظِ البيع والابتياع، لا بوَدِيعَةٍ ولا بشيءٍ مِن الأماناتِ، وهذا ما لا خفاءَ به على مَن استَحْيَا ونصح نفسَه، وبالله التوفيقُ لا بأحدٍ سِوَاه.

وهذه السُّنةُ أصلٌ في نفسِها، فلا سبيلَ أن تُردَّ إلى غيرِها؛ لأنَّ الأصولَ لا تَنْقاسُ، وإنّما تنقاسُ الفروعُ ردًّا على أصولها.

وممَّن قال بهذا الحديثِ واستَعْمَله وأفتَى به؛ فُقهاءُ المدينةِ، وفقهاءُ الشام، وفقهاءُ البصرةِ، وجماعةُ أهْلِ الحديثِ، ولا أعلمُ لأهلِ الكوفةِ سلفًا في هذه المسألةِ


(١) في ف ٢: "ذكر محمد بن جعفر الفريابي"، والمثبت من الأصل، ج.
(٢) التَّجليح: التصميم في الأمر والمُضيّ فيه، وهو أيضًا المكاشفة والتصريح في الكلام.
والمُجالح: المُكابِر. وكلُّ ذلك يحتمله معنى السياق هنا. ينظر: المحيط في اللغة، واللسان مادة (جلح).

<<  <  ج: ص:  >  >>