للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ووقتٍ واحدٍ، ولكنَّ المعنى في ذلك نَفْيُ الطِّيَرَةِ بقوله: "لا طِيَرةَ". وأما قولُه: "والطِّيَرةُ على مَن تَطَيَّرَ"، فمعناه: إثمُ الطِّيَرةِ على مَن تَطَيَّرَ بعدَ عِلْمِه بنَهيِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطِّيَرَة. وقولُه فيها: "إنّها شِرْكٌ، وما مِنّا إلّا (١)، ولكنَّ اللهَ يُذهِبُه بالتَّوَكُّل".

فمعنى هذا الحديثِ عندَنا، واللهُ أعلم، أنَّ مَن تَطَيَّرَ فقد أثِمَ، وإثْمُه على نَفْسِه في تَطَيُّرِه؛ لتركِ التَّوَكُّلِ وصريح الإيمان؛ لا أنّه يكونُ ما تَطَيَّرَ به على نَفْسِه في الحقيقة؛ لأنّه لا طِيَرَةَ حقيقةً، ولا شيءَ إلّا ما شاء الله في سابقِ عِلْمِه.

والذي أقولُ به في هذا الباب، تَسليمُ الأمرِ لله عزَّ وجلَّ، وتَركُ القَطْع على الله بالشُّؤْم في شيء؛ لأنَّ أخبارَ الآحادِ لا يُقطَعُ على عَينِها، وإنّما تُوجِبُ العملَ فقط، قال اللهُ تباركَ اسمُه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ٥١]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: ٢٢]، فما قد خُطَّ في اللوح المحفوظِ لم يكنْ منه بُدٌّ، وليستِ البقاعُ ولا الأنفسُ بصانِعَةٍ شيئًا من ذلك، واللهُ أعلم، وإيّاه أسألُ السلامةَ من الزَّللِ في القولِ والعملِ برحمتِه.

وقد كان من العربِ قومٌ لا يتَطيَّرُونَ ولا يَروْنَ الطِّيَرَةَ شيئًا.

ذكَرَ الأصمعيُّ (٢) أنَّ النابغةَ (٣) خرجَ مع زَبّانَ بنِ سيّارٍ يُريدانِ الغَزْوَ، فبينما


(١) قوله: "وما منّا إلّا" في هذا الكلام محذوف، تقديره: وما منّا إلّا ويعتريه التطيّر، ويسبق إلى قلبه الكراهة له، فحذف ذلك اختصارًا واعتمادًا على فهم السامع. وقد ذكر الترمذي في الجامع (١٦١٤)، عن سليمان بن حرب، أن هذا من قول عبد الله بن مسعود قد أدرج في الحديث.
(٢) نسب المرزوقي في الأزمنة والأمكنة، ص ٥٣٠ هذه الرواية للمُفَضَّل، فلعل كلًّا من الأصمعي والمُفَضَّل روياها، وهي ليست في المطبوع من الأصْمعيات أو المُفَضَّليَّات.
(٣) هو النَّابغة الذِّبياني واسمه: زياد بن معاوية، الشعر والشعراء لابن قُتيبة، ص ٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>