الأواخِرَ من رمضانَ، فضُرِبَ لهُ خِباءٌ، وأمَرَتْ عائشةُ، فضُرِب لها خِباءٌ، وأمَرَتْ حفصةُ فضُرِبَ لها خِباءٌ، فلمَّا رأتْ زينبُ خِباءَهُما، أمَرَتْ فضُرِبَ لها خِباءٌ، فلمّا رأى رسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلكَ، قال:"آلبِرَّ تُرِدنَ؟ " فلم يَعْتكِف في رمضانَ، واعتكفَ عشرًا في شوّالٍ (١).
هذا الحديثُ أدخلَهُ مالكٌ وغيرُهُ من العُلماءِ في بابِ قَضاءِ الاعْتِكافِ، وهُو أعظمُ ما يُعْتَمدُ عليه من فَقِهَهُ، ومعنى ذلكَ عِندي، واللّهُ أعلمُ، أنَّ رسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد نَوَى اعتِكافَ العشرِ الأواخِرِ من رمضانَ، فلمّا رأى ما كَرِههُ من تنافُسِ زينبَ وحَفْصةَ وعائشةَ في ذلكَ، وخَشِيَ عليهِنَّ أن تدخُل نيَّتهُنَّ داخِلةٌ، وما الله أعلمُ به، فانصرفَ، ثُمَّ وفَّى الله بما نَواهُ من فِعلِ البِرِّ، فاعتكفَ عشرًا من شوّالٍ.
وفي ذلكَ جَوازُ الاعتِكافِ في غيرِ رمضانَ.
وأمّا قولُهُ في حديثِ مالكٍ:"آلبِرَّ يقولونَ بهِنَّ؟ " فيحتَمِلُ، أي: أيظُنُّونَ بهِنَّ البرَّ؟ فأنا أخْشَى عليهِنَّ أن يُرِدنَ الكونَ معي، ولا يُرِدنَ البِرَّ خالِصًا، فكَرِهَ لهُنَّ ذلكَ، وعلى هذا يخرُجُ قولُهُ في غيرِ حديثِ مالكٍ:"آلبِرَّ يُرِدنَ" أو "تُرِدنَ". كأنَّهُ تقريرٌ وتوبيخٌ بلفظِ الاستِفهام، أي: ما أظُنُّهُنَّ يُرِدنَ البِرَّ، أو ليسَ يُرِدنَ البِرَّ، واللّه أعلمُ.
وقد يجُوزُ أن يكونَ رسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كرِهَ لأزْواجِهِ الاعتِكافَ، لشِدَّةِ مُؤنتِهِ، لأنَّ ليلهُ ونَهارهُ سواءٌ.
(١) أخرجه إسحاق بن راهوية (١١٥٤)، وأحمد في مسنده ٤٣/ ٧٣ (٢٥٨٩٧)، وابن ماجة (١٧٧١)، والنسائي في المجتبى ٢/ ٤٤، ٤٥، وفي الكبرى ١/ ٣٩٢، ٣٩٣ (٧٩٠)، وابن الجارود في المنتقى (٤٠٨)، وابن خزيمة (٢٢١٧)، وأبو عوانة (٣٠٧٢)، وابن حبان (٣٦٦٦) من طريق يعلى بن عبيد، به.