للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عُمر: أحْسَنُ شيءٍ في هذا الباب ما كتَب به ابنُ عباسٍ إلى نَجْدَةَ الخارجيّ: إنَّ النساءَ كُنَّ يَحْضرْنَ فيُداوينَ المرضَى، ويُحذَين (١) من الغنيمة، ولم يُضْرَبْ لهنَّ بسهم (٢).

وفيه إباحةُ رُكُوبِ البَحْرِ للنساء، وقد كان مالكٌ رحمه اللَّهُ يَكرَهُ للمرأةِ الحجَّ في البحر، فهو في الجهادِ لذلك أكْرَهُ، واللَّهُ أعلم.

وقال بعضُ أصحابِنا من أهلِ البصرة: إنّما كَرِه ذلك مالكٌ لأنَّ السُّفُنَ بالحجازِ صغارٌ، وأنَّ النساءَ لا يَقْدِرْنَ على الاستِتارِ عندَ الخلاءِ فيها لضيقِها وتزاحُم الناس فيها، وكان الطَّريقُ من المدينةِ إلى مكةَ على البرِّ ممكنًا، فلذلك كَرِه ذلك مالكٌ. قال: وأمّا السُّفُنُ الكبارُ نحوُ سُفُنِ أهل البَصْرَة، فليس بذلك بأسٌ. قال: والأصلُ أنَّ الحجَّ فَرْضٌ على كلِّ مَن استَطاعَ إليه سبيلًا من الأحرارِ البالِغين؛ نساءً كانوا أو رِجالًا، إذا كان الأغلبُ من الطّريقِ الأمنَ، ولم يَخُصَّ برًّا من بحر، فإذا كان طريقُهم على البحر، أو تَعذَّر عليهم طريقُ البَرّ، فذلك لازمٌ لهم مع الاستِطاعة.

وفي هذا الحديث ما يَدُلُّ على رُكوبِ البحرِ للحَجِّ؛ لأنّه إذا رُكِبَ للجهاد، فهو للحَجِّ المفترضِ أوْلَى وأوْجَبُ. وذكَر مالكٌ رحمه اللَّه أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كان يَمنعُ الناسَ من رُكوبِ البحر، فلم يَركَبْه أحدٌ طُولَ حياتِه، فلمّا مات استَأذَن معاويةُ عثمانَ في رُكوبِه فأذِنَ له، فلم يَزَلْ يُركَبُ حتى كان أيّامُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز (٣)، فمنَع الناسَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز من رُكوبِه، ثم رُكِب بعدَه إلى الآن.


(١) أي: يُعْطَيْنَ. النهاية في غريب الحديث ١/ ٣٥٨.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣/ ٤٣٢ (١٩٦٧)، ومسلم (١٨١٢)، وأبو داود (٢٧٢٨)، والترمذي (١٥٥٦) عن يزيد بن هرمز، عنه رضي اللَّه عنهما.
(٣) ينظر: البيان والتحصيل لابن رشد ١٧/ ٢٤ - ٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>