وقد كان ابنُ أبي ذِئبِ، وهُو من فُقهاءِ أهلِ المدينةِ في عَصْرِ مالكٍ، يُنكِرُ على مالكٍ اختيارهُ تركَ العَملِ به، حتَّى جَرَى منهُ لذلكَ في مالكٍ قولٌ خَشِنٌ، حَملهُ عليه الغَضبُ، لم يُسْتَحسَن مِثلُهُ منهُ، فكيفَ يصِحُّ لأحدٍ أنَّ يدَّعي إجماعَ أهلِ المدينةِ في هذه المسألةِ؟ هذا ما لا يصِحُّ القولُ به.
وقال هذا القائلُ في معنى قولِ مالكٍ: وليسَ لهذا عندَنا حدٌّ معرُوفٌ، ولا أمرٌ مَعمُولٌ به: إنَّما أرادَ الخيار، لأنَّهُ قال ذلك بإثرِ قولِهِ:"إلّا بيع الخيارِ". وأرادَ مالكٌ بقولِهِ هذا: أي ليسَ عندَنا بالمدينةِ في الخيارِ حدٌّ معرُوفٌ، ولا أمرٌ معمُولٌ به فيه. إنكارًا لقولِ أهلِ العِراقِ وغيرِهِمُ، القائلينَ بأنَّ الخيارَ لا يكونُ في جميع السِّلع إلّا ثلاثةَ أيام، والخيارُ عندَ مالكٍ وأهلِ المدينةِ، يكونُ ثلاثًا وأكثر وأقلَّ، على حَسَبِ اختِلافِ حالِ المبيع، وليسَ الخيارُ عِندهُ في الحَيَوانِ كهُو في الثِّيابِ، ولا هُو في الثِّيابِ كهُو في العَقارِ، وليسَ لشيءٍ من ذلك حدٌّ بالمدينةِ لا يُتجاوزُ، كما زعَمَ المُخالِفُ.
قال: فهذا معنى ما أرادَ مالكٌ رحِمهُ الله، بقولِهِ: وليسَ لهذا عندَنا حدٌّ معرُوفٌ، ولا أمرٌ مَعمُولٌ به. أي: ليسَ للخيارِ واشْتِراطِهِ عندَنا حدٌّ لا يُتجاوَزُ في العَملِ سُنَّةٌّ، كما زعَمَ من خالفنا.
قال وأمّا حديثُ:"البيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتَفرَّقا". فإنَّما ردَّهُ اعتِبارًا ونظرًا واختيارًا، مالَ فيه إلى بعضِ أهلِ بَلدِهِ، كما صنعَ في سائرِ مَذْهبِهِ.
قال أبو عُمرَ: قد أكثَرَ المُتأخِّرُون من المالكيِّين والحَنفيِّينَ من الاحتِجاج لمذهبِهِما في ردِّ هذا الحديثِ، بما يَطُولُ ذِكرُهُ، وأكثرُهُ تَشْغيبٌ لا يُحصَلُ منهُ على شيءٍ لازِم لا مدفَعَ لهُ.
ومِن جُملةِ ذلكَ: أنَّهُم نَزعُوا بالظَّواهِرِ، وليسَ ذلك من أصلِ مَذْهبِهِم، فاحتجُّوا بعُمُوم قولِ الله عزَّ وجلَّ:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:١]. قالوا: وهذانِ