للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شكَّ قُرَّةُ. وهذا الحديثُ لم يَرفَعْه إلَّا قُرَّةُ بنُ خالدٍ، وقُرَّةُ بنُ خالدٍ ثقةٌ ثَبْتٌ، وأمَّا غيرُه فيَروِيه عن ابنِ سيرِينَ، عن أبي هريرةَ قولَه (١).

وفي هذا الحَدِيثِ، مِن رَأي أبي قَتادَةَ، دَليلٌ على أنَّ الماءَ اليَسيرَ تَلحَقُه النَّجاسَةُ، ألا تَرَى إلى قَولِه: أتَعجَبِينَ يا ابنةَ أخي؟ سمِعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: "ليسَتْ بنَجَسٍ". فدَلَّ هذا أنَّ الهِرَّ لو كان عندَه مِن بابِ النَّجاسَاتِ لأفسَدَ الماءَ، وإنَّما حمَلَه على أنْ يُصغِيَ لها الإناءَ طَهارَتُها، ولو كانَتْ ممَّا تُنَجِّسُ لم يَفعَلْ، فدلَّ هذا على أنَّ الماءَ عندَه تُفسِدُه النَّجاسَةُ وإن لم تَظهَرْ فيه؛ لأنَّ شُربَ الهِرِّ وغيرِه مِن الحَيَوانِ في الإناءِ، إذا لم يكنْ في فَمِه أذًى مِن غيرِه، ليسَ تُرَى معه نَجاسةٌ في الإناء.

وهذا المعنى اختلَفَ فيه أصحابُنا وسائرُ العُلماء؛ فذَهَب المصريون مِن أصحابِ مالكٍ إلى أنَّ قليلَ الماءِ يُفسِدُه قليلُ النَّجاسةِ، وأنَّ الكثيرَ لا يُفسِدُه إلَّا ما غَيَّرَ لونَه أو طَعمَه أو ريحَه مِن المحرَّماتِ، وما غلَب عليه مِن الأشياءِ الطَّاهِرَةِ أخرَجَه مِن باب التَّطهِيرِ وأبقَاهُ على طهارَته. ولم يَحُدُّوا بينَ القَليلِ مِن الماءِ الذي يُفسِدُه قليلُ النَّجاسَةِ، وبينَ الكَثيرِ الذي لا يُفسِدُه إلَّا ما غلَب عليه حدًّا يُوقَفُ عندَه، إلَّا أنَّ ابنَ القاسِم روَى عن مالكٍ في الجنُبِ: يَغتسِل (٢) في حَوضٍ مِن الحِياض التي تُسقَى فيها الدَّوابُّ، ولم يكنْ غَسَلَ ما به مِن الأذَى، أنَّه قد أفسَدَ الماءَ (٣). ورُوِيَ عن مالكٍ في الجنُبِ يَغتَسِلُ في الماءِ الدَّائم الكثيرِ، مثلَ الحِيَاضِ التي تكونُ بينَ مكَّةَ والمدِينَةِ، ولم يكنْ غسَلَ ما به مِن الأذَى، أنَّ ذلك لا يُفسدُ الماءَ. وهذا مَذهَبُ ابنِ القاسم، وأشهَبَ، وابنِ عبدِ الحَكَم، ومَن اتَّبَعَهم مِن أصحابِهم


(١) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار ١/ ٢٠ (٥٢)، وفي شرح مشكل الآثار ٧/ ٧٠، ونقل الدارقطني في سننه ١/ ١١٢ بإثر الرواية المرفوعة عن أبي بكر النيسابوريِّ شيخه قوله: "ورواه غيره عن قُرّة: وُلوغ الكلب مرفوعًا، ووُلوغ الهِرِّ موقوفًا".
(٢) قفز نظر ناسخ ف ١ إلى "يغتسل" الآتية بعد سطر، فسقط ما بينهما.
(٣) ينظر: المدوّنة ١/ ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>