للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنِ الكُحْلِ، وقدِ اشْتكَتْ عينَها، فبلغَ ذلك منها، فقالت لها أُمُّ سلمةَ: اكْتَحِلي بكُحلِ الجَلاءِ باللَّيلِ، وامْسَحيهِ بالنَّهارِ (١).

وهذا عِندي، وإن كان ظاهِرُهُ مُخالِفًا لحديثِ هذا البابِ، لما فيه من إباحَتِهِ باللَّيلِ، وقولُهُ في هذا الحديثِ: "لا" مرَّتينِ، أو ثلاثًا، على الإطلاقِ، فإنَّ ترتيب الحديثِ، واللَّهُ أعلمُ، على أنَّ الشَّكاةَ التي قال فيها رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا" لم تبلُغ، واللَّهُ أعلمُ، منها مبلغًا، لا بُدَّ لها فيه من الكُحلِ، بقولِهِ هاهُنا: ولو كانت مُحتاجةً إلى ذلك مُضطرّةً، تخافُ ذهابَ بصرِها، لأباحَ لها ذلك، واللَّهُ أعلمُ، كما صنَعَ بالتي قال لها: "اجعلَيهِ باللَّيلِ، وامسحيهِ بالنَّهارِ".

والنَّظرُ يشهدُ لهذا التَّأويلِ؛ لأنَّ الضَّرُوراتِ تنقُلُ المَحظُور إلى حالِ المُباح، في الأُصُولِ.

وكذلك جَعلَ مالكٌ فتَوَى أُمِّ سَلَمةَ هذه، تفسيرًا للحَديثِ المُسندِ في الكُحلِ؛ لأنَّ أُمَّ سلمةَ روَتْهُ، وما كانت لتُخالِفَهُ إذا صحَّ عِندها، وهي أعلمُ بتأويلِهِ ومخرجِهِ، والنَّظرُ يشهدُ لذلك؛ لأنَّ المُضطرَّ إلى شيءٍ، لا يُحكمُ لهُ بحُكم المُترَفِّهِ المُتزيِّنِ، وليسَ الدَّواءُ (٢) والتَّداوي من الزِّينةِ في شيءٍ، وإنَّما نُهيتِ الحادُّ عنِ الزِّينةِ، لا عنِ التَّداوي، وأُمُّ سَلَمةَ أعلمُ بما روَتْ، مع صِحَّتِهِ في النَّظرِ، وعليه أهلُ الفِقهِ، وبه قال مالكٌ والشّافِعيُّ وأكثرُ الفُقهاءِ.

وقد ذكر مالكٌ في "مُوطَّئهِ" (٣) أنَّهُ بَلَغهُ عن سالم بن عبدِ اللَّه وسُليمان بن يَسارٍ، أنَّهُما كانا يقولانِ، في المرأةِ -يُتوفَّى عنها زوجُها، أنَّها إذا خَشِيَتْ على بَصرِها من رَمدٍ بعَينِها، أو شَكْوَى أصابَتها: إنَّها تكتحِلُ وتَتَداوى بالكُحلِ، وإن كان فيه طِيبٌ.


(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ١١٥ (١٧٥١).
(٢) في الأصل: "الداء"، خطأ بيّن.
(٣) الموطأ ٢/ ١١٥ (١٧٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>