وممَّن ذهب إلى هذا: يعقُوبُ ابنُ السِّكِّيتِ، وابنُ قتيبةَ، وهُو قولُ يُونُسَ بنِ حَبِيبٍ، وذَهَبُ إليه قومٌ من أهلِ الفِقهِ والحديثِ.
وقال آخرُونَ: المِسكِينُ أحْسَنُ حالًا من الفَقِيرِ. واحتجَّ قائلو هذه المقالةِ بقولِ اللَّه عزَّ وجلَّ:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}[الكهف: ٧٩]. فأخبَرَ أنَّ للمِسكِينِ سَفِينةً من سُفُنِ البَحرِ، ورُبَّما ساوَتْ جُملةً من المالِ. واحتجُّوا بقولِ اللَّه عزَّ وجلَّ:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة: ٢٧٣]، قالوا: فهذه الحالُ التي وصفَ اللَّهُ بها الفُقراءَ، دُونَ الحالِ التي أخبَرَ بها عنِ المساكِينِ.
قالوا: ولا حُجَّةَ في بَيْتِ الرّاعِي؛ لأنَّهُ إنَّما ذكَرَ أنَّ الفَقِيرَ كانت لهُ حَلُوبةٌ في حالٍ ما.
قالوا: والفَقِيرُ معناهُ في كلام العربِ: المفقُورُ الذي نُزِعَتْ فِقْرةٌ من ظَهرِهِ من شِدَّةِ الفَقرِ، فلا حالَ أشدُّ من هذه، واسْتَشهدُوا بقولِ الشّاعِر (١):
لمّا رأى لُبَدُ النُّسُورَ تَطايَرَت ... رفَعَ القَوادِمَ كالفَقِيرِ الأعْزَلِ
قالوا: وهذا هُو الشَّدِيدُ المسكنةِ، واسْتَدلُّوا بقولِ اللَّه عزَّ وجلَّ:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد: ١٦] يعني: مِسكِينًا قد لُصِقَ بالتُّرابِ من شِدَّةِ الفقرِ.
وهذا يدُلُّ على أنَّ ثَمَّ مِسكِينًا ليس ذا مَتْرَبةٍ، مِثلَ الطَّوّافِ وشبْهِهِ، ممَّن لهُ البُلغةُ والسَّعيُ في الاكتِسابِ، بالسُّؤالِ والتَّحرُّفِ، ونحو هذا.