واحتجَّ إسحاقُ أيضًا بحديثِ عائشةَ، حِين ماتَ صبِيٌّ من الأنصارِ بينَ أبوَينِ مُسلِمينِ، فقالت عائشةُ: طُوبَى لهُ، عُصفُورٌ من عَصافِيرِ الجنّةِ. فردَّ عليها النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال:"مَهْ يا عائشةُ، وما يُدرِيكِ؟ إنَّ اللَّهَ خلقَ الجنّةَ، وخلقَ لها أهلَها، وخلقَ النّارَ، وخلقَ لها أهلَها"(١).
قال إسحاقُ: فهذا الأصلُ الذي يَعتمِدُ عليه أهلُ العِلم.
قال أبو عُمر: أمّا قولُ إسحاقَ ومن قال بقولِهِ، في تأوِيلِ الحديثِ في الفِطرةِ التي يُولدُ عليها بنُو آدم: إنَّها المعرِفةُ والإنكارُ، والكُفرُ والإيمانُ، فإنَّهُ لا يخلُو من أن يكونوا أرادُوا بقولِهِم ذلك، أنَّ اللَّهَ خلقَ الأطفالَ، وأخرجهُم من بُطُونِ أُمَّهاتِهِم، ليعرِفَ منهُمُ العارِفُ ويَعترِفَ فيُؤمِنَ، وليُنكِر منهُمُ المُنكِرُ ما يعرِفُ فيكفُرَ، وذلك كلُّهُ قد سبقَ به لهم قَضاءُ اللَّه، وتقدَّمَ فيه عِلمُهُ، ثُمَّ يصِيرُونَ إليه في حِينِ تصِحُّ منهُمُ المَعرِفةُ والإيمانُ والكُفرُ والجُحُودُ، وذلك عِندَ التَّميِيزِ والإدراكِ، فذلك ما قُلنا.
أو يكونوا أرادُوا بقولِهِم ذلك، أنَّ الطِّفل يُولَدُ عارِفًا مُقِرًّا مُؤمِنًا، أو عارِفًا جاحِدًا مُنكِرًا كافِرًا في حِينِ وِلادتِهِ. فهذا ما يُكذِّبُهُ العيانُ والعقلُ، ولا عِلمَ أصحُّ من ذلك، لأنَّها شواهِدُ الأُصُولِ، ودلائلُ العُقُولِ.
وليس في قولِهِ عزَّ وجلَّ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآيةَ دليل يشهدُ لهم بما ادَّعوهُ من ذلك، ولا فيه ردّ لما قُلنا، وإنَّما فيه أنَّ الخلقَ يُجْزَون ويصِيرُونَ إلى ما سبقَ لهم في عِلمِهِ، وهذا ما لا يختلِفُ أهلُ الحقِّ فيه.
ومعنى الآيةِ والحديثِ: أنَّهُ أخرجَ ذرِّيَّةَ آدمَ من ظهرِهِ، كيفَ شاءَ ذلك، وألهمهُم أنَّهُ ربُّهُم، فقالوا: بلى، لئلّا يقولوا يومَ القِيامةِ: إنّا كُنّا عن هذا غافِلِينَ،