وأمّا قولُه:"فإذا أدبَرت الحيضةُ فاغسلي عنك الدمَ وصلِّي". في رواية مالك، فقد فسَّره غيرُه ممن ذكَرنا روايتَه هاهنا؛ وهو أن تغتسلَ عندَ إدبارِ حيضتِها وإقبالِ دم استحاضتِها كما تغتسِلُ الحائضُ عندَ رؤيةِ طُهْرِها سواءً؛ لأنَّ المستحاضةَ طاهرٌ، ودمَها دمُ عرْقٍ كدم جُرح سواءً، فيلزَمُها عندَ انقطاع دم حيضتِها الاغتسال، كما يلزَمُ الطاهرَ التي لا ترَى دمًا.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ المستحاضةَ لا يلزَمُها غيرُ ذلك الغُسْل؛ لأنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمُرْها بغيرِه، وفيه ردٌّ لقول مَن رأى عليها الغُسلَ لكلِّ صلاة، وردٌّ لقول مَن رأى عليها الجمعَ بين الظُّهر والعصر بغُسْل واحد، والمغرب والعشاء بغُسْل واحد، وتغتسِلُ للصبح؛ لأنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمُرْها بشيءٍ من ذلك في هذا الحديث، وهو أصحُّ حديث رُوِيَ في هذا الباب، وهو ردٌّ لقول من قال بالاستظهار يومين أو ثلاثًا أو أقلَّ أو أكثر.
وقد استدلَّ بعضُ مَن يرَى الاستظهارَ من أصحابنا بقوله عليه السلام في هذا الحديث:"فإذا ذهبَ قَدْرُها". قال: لأنَّ قدْرَ الحيض قد يَزيدُ مرةً وينقُصُ أخرى؛ فلهذا رأى مالكٌ الاستظهارَ بثلاثةِ أيام ليستبينَ فيها انفصالُ دم الحيض من دم الاستحاضة، واقتصَر على الثلاثةِ الأيام استدلالًا بحديثِ المُصرَّاة (١)، إذ حدَّ فيه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثةَ أيام في انفصالِ اللَّبَنيْن.
وقال غيرُه ممن يخالفُه في الاستظهار: معنى قوله: "فإذا ذهَب قَدْرُها". تقول: إذا ذهبتْ وأدبَرتْ وخرَج وقتُها، ولم يكن في تقديرِك أنه بقيَ شيءٌ منه،
(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٢١٦ (١٩٩٥) عن أبي الزناد عبد اللَّه بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وفيه أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ولا تُصرُّوا الإبل والغنم، فمَنِ ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النَّظرينِ بعد أن يحلُبَها". وهو الحديث الحادي والعشرين لأبي الزناد، وقد سلف في موضعه.