للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: ومثلُه قولُه تعالى ذكرُه: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} الآيةَ [الأعراف: ١٩٥ - ١٩٦]. وكذلك قولُ هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} الآيةَ [هود: ٥٥ - ٥٦]. وهذا ليس بأمرٍ ولا إغراء، ولكنه تهاونٌ بكَيْدِهم، واستخفافٌ بتوعُّدِهم، وإظهارٌ لعجزِهم. وذكَر آياتٍ كثيرةً من هذا الباب، وقال: هذا البابُ مشهورٌ في كلام العرب، يستعمِلُه منهم مَن فَلَج بحُجَّتِه (١)، وأمِن من كَيْدِ خَصمِه، قال المتلمِّسُ (٢) يهجُو عمرَو بنَ هندٍ حين قتل طرفةَ بنَ العبد، يُخبرُ أنه غيرُ خائفٍ من توعُّدِه، ولا جازع من تهدُّدِه:

فإذا حَلَلْتُ ودُونَ بيتيَ غاوةٌ ... (٣) فابْرُقْ بأرضِك ما بدا لك وارْعُدِ

قال: فليس هذا القولُ أمرًا منه له بالدوام على تهدُّدِه، ولا نهيًا له عن الإقامةِ على تخويفِه وتوعُّدِه، وإنّما هو إعلامٌ أنَّ إيعادَه غيرُ ضائر له، وأنَّ مكائدَه غيرُ لاحقةٍ به.

قال: وكذلك قولُه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: ٦٤]. ثم قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: ٦٥]. فهذا كلُّه داخلٌ في باب التهاوُنِ والتحذير، خارجٌ من باب الإباحةِ والتفويض، ومن معنى الإغراءِ


(١) قوله: "فلَجَ بحُجَّته" أي: ظهر وغَلَب. قال أبو عبيد: وأما الفُلْج بضمِّ الفاء، فهو أن يفْلُج الرجلُ أصحابه: يعْلُوهم ويفُوتُهم. غريب الحديث له ٣/ ٢٣٩، وينظر: المخصص لابن سيده ٣/ ٤٠٩.
(٢) وهو المُتلمِّس بن عبد العُزّى، ويقال ابن عبد المسيح، واسمه جرير، وسُميَ المُتلمِّس لقوله:
فهذا أوانُ العِرْضِ جُنَّ ذُبابُه ... زنابيرُه والأزرق المُتَلمِّسُ
والعِرْض: اسمُ وادٍ بالمدينة. والبيت الذي ذكره المصنِّف في ديوانه، ص ١٤٧.
(٣) قوله: "وغاوة" اسم جبل أو قرية بالشام قريب من حلب. ينظر: تاج العروس (غوى).

<<  <  ج: ص:  >  >>