الفساد. فلا تخرجوه بعدي من مصر لئلا تتعبوا من أمره". فكان الأمر كما قاله الملك المنصور قلاون. والملوك لهم فراسة في الأمور قبل وقوعها كما قيل في المعنى:
يرى العواقب في أثناء فكرته … كأن أفكاره بالغيب كهان
لا طرفة منه إلا تحتها عمل … كالدهر لا دولة إلا لها شان
ولم يزل الأمير قفجق ممقوتا في دولة الملك المنصور قلاون حتى مات قلاون وتسلطن خليل ولده، إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين فاستقر بالأمير قفجق نائب الشام. فلما ظهر له منه عين العصيان ارسل بالقبض عليه فهرب قفجق إلى القان غازان وحسن له بأن يزحف على البلاد كما تقدم من أخباره.
قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: "حكى لي الأمير قفجق، بعد أن جرى ما جرى، ورجع إلى القاهرة، وتلاقى عسكر السلطان مع عسكر غازان فكاد غازان أن ينكسر وهم بالهرب، فطلبني ليضرب عنقي، لأني كنت السبب في مجيئه إلى دمشق، فلما حضرت بين يديه قال لي: ما هذا الحال؟ فقلت: ما ثم إلا الخير والسلامة … فأنا اخبر بعسكرنا فان لهم أول صدمة ثم يولون عن القتال. فالقان يصبر ساعة فما يبقى قدامه أحد منهم. فصبر ساعة فكان ما قاله صحيحا. ولما انكسر عسكر مصر أراد أن يزحف عليهم بما معه من العسكر فقلت في نفسي: متى زحف عليهم لم يبق منهم أحد. فقلت له: القان يصبر ساعة فان عسكر مصر لهم حيل وخداع، وربما يكون لهم كمين وراء الجبل فيخرج علينا فننكسر. فسمع لي، ثم وقف ساعة حتى أبعدتم عنا ولم يبق منكم أحد قدامه … فلو زحف عليكم ما بقي منكم أحد. فلولا أنا ما سلم منكم أحد".
فكان الأمر كما قيل:
ولو شئت قابلت المسيء بفعله … ولكنني أبقيت للصلح موضعا
ومن هنا نرجع إلى أخبار الملك الناصر محمد ابن قلاون.
ثم في هذه السنة وصل الخبر من البحيرة بأن قد اختلفت طائفتان من العرب - وهما جابر ومرديس - ونهبوا ضياع البحيرة، وأحرقوا الجرون، فاضطربت أحوال الديار المصرية، وعين لهم السلطان تجريدة … فكان باش العساكر الأمير بيبرس المنصوري أمير دوادار كبير، وصحبته جماعة من الأمراء نحو عشرين أميرا، ما بين طبلخانات