فلما جرى ذلك، وقع الاتفاق على سلطنة الناصر محمد ابن السلطان قايتباي … فأحضروا الخليفة، والقضاة الأربعة. وخلعوا الأشرف قايتباي من السلطنة، وبايعوا ولده - من غير عهد له من أبيه - ولقبوه "بالملك الناصر" وكني "بأبي السعادات" وكان تلقب المنصور أولا، ثم قرر لقبه بالناصر. فلما انقضى أمر المبايعة، أحضر إليه شعار الملك، وهي الجبة السوداء، وقد فصلت على قدره، ولفت له عمامة لطيفة مناسبة له، وتقلد بالسيف الحمائلي، وقدمت إليه فرس النوبة، بالسرج الذهب والكنبوش، وركب من سلم الحراقة.
وكانت مبايعته في الساعة الرابعة من النهار، والماضي من الشروق ثمان وأربعون درجة والطالع بالميزان.
فلما ركب تقدم قانصوه خمسمائة، وحمل القبة والطير على رأسه - وقد ترشح أمره لأن يلي الأتابكية - فركب السلطان والخليفة معه، ومشى بين يديه الأمراء، حتى طلع من باب سر القصر الكبير، وجلس على سرير الملك، وقبل له الأمراء الأرض، وضربت له البشائر بالقلعة، ونودي باسمه في القاهرة، وارتفعت له الأصوات بالدعاء من الخاص والعام … وفي حال جلوسه على سرير الملك خلع على الخليفة، ونزل إلى داره، وخلع على قانصوه خمسمائة، وقرره أميرا كبيرا عوضا عن تمراز الشمسي. وخلع على جان بلاط بن يشبك وقرره في الدوادارية الكبرى عوضا عن أقبردي الدوادار. وخلع على تاني بك الجمالي وصيره نظام الملك مضافا لما بيده من أمرية سلاح. وكان القائم في هذه الأمور وتدبيرها كرتباي الأحمر.
هذا كله جرى والأشرف قايتباي في النزع لم يشعر بما وقع من هذه الأمور، ولو كان واعيا لما مكن الأمراء أن يسلطنوا ولده، ولا كان هذا قصده.
وكان الملك الناصر لما تولى الملك له من العمر نحو أربع عشرة سنة وأشهر، وقد قارب البلوغ، وكان مولده سنة سبع وثمانين وثمانمائة. وكانت أمة جركسية تسمى أصلباي من مشترى الأشرف قايتباي. وكان الملك الناصر محمد هذا جميل الهيئة، مليح الشكل، وعنده عترسة، وجراءة في الأمور، متحركا في نفسه، وعنده رهج وخفة، ومما مدح به قول القائل:
إن العناصر في سلطاننا اجتمعت … شمائل بهرت من حين مولده
قد ناسب النار عزما، والهوا خلقا … والبحر جودا، وملك الأرض في يده